طُلب من أديب معاصر -في سؤالٍ افتراضيّ- أن يختار كتابًا واحدًا ليس غير، يصحبه في رحلة طويلة إلى جزيرة بعيدة؛ فأجاب من دون تردّد: معجم «لسان العرب» ولخّص مسوغات اختياره؛ بأنّه معجمٌ لا يقتصر على شرح معاني الكلمات وتوضيحها، بل يتجاوزه إلى دراسة الثقافة العربيّة وطبيعة اللسان العربيّ، وهو حقّا كذلك، فمعجم لسان العرب لا يقف عند حدود الكلمات، وإنّما يغوص في أعماق النفس العربيّة ومزاجها، وأيام العرب وعاداتهم، فضلًا عن معرفة اللفظ البليغ، والمعنى الشريف، والأسلوب الرشيق، ومواءمة المقال للمقام.
ما يلفت الانتباه بعيدًا عن قيمة المعجم ومكانته في اللغة العربيّة وآدابها أنّ أحدًا لم يقف عند دلالة اسم «ابن منظور» وتموضعه في نسبه، ولا عند صلته باسم المعجم العربيّ الأشهر، أيْ العلاقة بين لسان العرب وابن منظور، حيث يرد نسبه في مقدمة المعجم بأنّه: ابن منظور محمّد بن مكرّم بن عليّ بن أحمد بن حبقة الأنصاريّ الأفريقيّ، ويضيف الزركليّ في كتابه الأعلام: «جمال الدين ابن منظور» بعد ذكر اسمه، وكذلك عند العسقلاني في الدرر الكامنة، فلا تبوح كتب التاريخ والأعلام والفهارس بكثيرٍ عن اسمه وحياته التي لم يبق منها إلا القليل ومعجم لسان العرب وابن منظور، فليس ثمّة إجماع على موقع «منظور أو ابن منظور» في سلسلة نسب صاحب لسان العرب.
إنّ الباحث في لسان العرب عن معنى كلمة، لا يحتاج في الأصل إلّا إلى عينٍ تنظر، ولسانٍ ينطق؛ فالبصر يبحث عن الكلمات، واللسان ينطق بالصحيح القويم منها، فاجتماع الحاستين أساس لا مناص منه لكلّ من رام البحث في أيّ معجم، فهل من المصادفة أن يكون اسمُ صاحب لسان العرب ابنَ منظور؟ أم أن اللقب قد أطلق عليه بعد ذلك؟ لكنّ وبغض النظر عن ماهيّة هذه التسمية وكيفيّتها وأسبابها فإنّها تظلّ تسمية طريفة تتناسب مع طبيعة الكتاب والغاية منه.
الإحاطة بعبقرية اللغة العربيّة، هي ممّا تعجز عنه الأماني، وتنقطع من دون بلوغه الآمال، والتسميّة جزء من تلك العبقرية، والعربيّة زاخرة بهذا الفن، أقصد «فن التسميّة» إن جاز وصفه بالفن، فالتسميةُ أنسٌ بعد وحشة، وحكمٌ ضمنيّ على مسمّى، وأمنية دفينة لمطلبٍ عزيز، واستحواذ معنويّ على آخر، وذاكرة لا تهرم، لذلك لا يمكن استبعاد أن تكون عبقرية اللسان العربيّ وأهله وراء هذا التقابل والتجاور بين مسمّى لسان العرب وابن منظور، أمّا أولهما فـ«ابن منظور» نفسه من سمّاه، إذ يقول في خطبة كتابه: «فجمعتُ هذا الكتاب في زمنٍ أهلُهُ بِغير لغتهم يفخرون وصنعته كَمَا صنع نوحٌ الفلكَ وقومُه منهُ يسخرون، وسميته لسان العرب»، أمّا انتقاء اسم (ابن منظور) فهذا ما لا يمكن الجزم به، والحكم به، أو الكشف عن سرّ انتقاء هذا الاسم بخاصة من نسب صاحب لسان العرب، إن كان حاضرًا في نسبه في الأصل!
فهل كان هذا الانتقاء دعوة ضمنيّة إلى «النظر» في معجم لسان العرب ولغتهم التي أشار صاحبه إلى أنّ أهلها (العرب) بغير لغتهم يفخرون؟! ليبدو اختيار الاسم (ابن منظور) بمنزلة الحثّ على التمسّك باللغة العربيّة و«النظر» فيها، أم هو من أسرار الثقافة العربيّة التي لم تبح بها، ولغز لمّا يحله باحث حتّى الآن، إن كان في الأمر سرّ أو لغز ما، أم هو من توقيفات العربيّة ودهائها وجمالها المعهود؟




http://www.alriyadh.com/2056133]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]