اعتدت دائماً على أن لا أقف في مساحةٍ لا يعشب فيها ظلّي، لهذا لم أرتدِ يومًا ثيابًا غير ثيابي، ولم أنفعل يومًا بغير القصيدة وتداعياتها وحالاتها وما تنتجه من تأملات في الحياة، وما تستعين به من خيالات تقارب الوجود وتتلمّس إدراكه بعيدًا عن سلطة البديهيات وما وثّقه العقل الخالص وتعارف عليه.. لهذا سأتساءل دائمًا.. كيف ومتى وأين تكتب القصيدة..؟ وهل ستثق بالساعة دائماً..؟ ماذا لو خانتكَ يوماً؟! هذه الأسئلة التي نحتملها دائماً كلما ادّعينا الشعر لا نتوقف مطلقاً عن مراجعة إجاباتها وفي كل حين نكتشف قبل غيرنا قصور كل الإجابات؟! فالقصيدة حالٌ لا يُسألُ عنها بـ»كيف».. وزمن لا يتوقعه إلا من لا ينتظره.. ومقعدٍ لا يرتضي بأقل من كوخٍ في غيمةٍ واجهته قوس قزح، ونوافذه غصون من مطر تتحلّق حولها العصافير الملوّنة، وفي كل مرة تشرق شمس الحياة ندرك متأخرين أننا بحالة انتحارية إذ نقترب من الجوهر الإنساني ونحترق به ثم نعود منه ببخور أرواحنا دون أن يدرك غيرنا حقيقة هذه الرحلة ومشاهداتها وشهاداتها والمهمل منها، ولا حتى متى ذهبنا ومتى عدنا ولا أين نبني هذا الكوخ إلا في فراغ آيلٍ للسقوط ومتشبّث به..! لكن الأمر يبدو لي هامشياً حين يعتني به الآخرون، فقصيدتي التي تفاجئني في كل مرة لا أرغب في أن أكتشفها قبل لقائها ولا أن أعرّف بها إلا بحضورها، كما أنني لا أحب أن أعرف من منا يسافر إلى الآخر، أنا حين أجاور نجمةً تحرس معي ليلنا الأخير، أم هي بينما تفتح شباكها للتاريخ وتنادي عليَّ كلما كنتُ مشغولاً بمسح عرق النخلة عن جبين أبي..! هل علينا أن نصف الشعر ليقدر عليه غيرنا؟ وهل تبقّى لنا في تلك المعايير التي تواتر عليها أجدادنا متسعًا لنقول ما لم يقله الأجداد..؟ وهل القصيدة إلا حالة ولادة أو حالة موت لا تتكرر إلا افتتاناً وامضاً ولا تتخلّق إلا تجريبًا يكفله التاريخ؟ إنها المزيد المزيد من الأسئلة تشغلنا بنا.. كلما بحثنا عن الإجابة على أسئلة الآخرين... ثمة أسئلة ساذجة أحيانًا يطرحها الآخرون على الشعراء دون أن يدركوا حالتهم الشعرية أو كيف يتأملون وكيف يقرؤون الحياة شعرًا.. أكثرها نكاية بهم هو «ماذا تقصد.. أو ما المعنى الذي تستهدفه والحقيقة الدامغة أن الشاعر يفتح النوافذ للمتلقي دون أن يمنحه عينيه ليرى ما يراه كما يرى جلّ شعراء هذا العصر.. ولكن هل من وسيطٍ بينهما؟ في تاريخنا القديم ثمة ثنائيات بين الشاعر والقارئ النوعي أو ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاحًا (الناقد القديم) أكثرها تأثيرًا ربما ثنائية المتنبي وأبي الفتح عثمان بن جني.. الذي قال عنه المتنبي ذات رواية (ابن جني أعلم بشعري مني) وهو من هذا المنحى يعد ذلك الوسيط الذي يحاور القصيدة ويقاربها كثيرًا أو يكتشف جمالًا آخرَ قد لا يستهدفه الشاعر ربما، على اعتبار أنه من غير الضرورة أن يكون الإبداع مقصودًا حين يتم إنتاج النص في حالة شعرية هي أشبه بحالة السكر الوجداني التي يغيب معها الوعي الناقد أو الانتباه الفني الصرف داخل عملية التخلق الحقيقي للقصيدة... اليوم أظننا افتقدنا ذلك القارئ النوعي الذي يقرّب المسافة بين النص والمتلقي ويمنح المتلقي بعض عينيه في أحايين كثيرة، وهو القارئ الذي قدمته لنا الملاحق الثقافية في صحفنا المحلية في فترة سابقة وتخلّت عنه هي الأخرى في هذا العصر لتواصل قصائدنا السفر باتجاه الشمس وحدها في سماء تعجّ بالنجوم والأبراج، لهذا ستبقى الحالة الشعرية رهن شاعرها بكل تهويماته وخيالاته.. ويبقى كلاهما في ذمة التاريخ. فاصلة: هنيئًا لنا حين نصحو نقبِّلُ وجهَ المرايا.. نؤسّسُ للعمرِ أغنيةً غضَّةً في شفاةِ الصبايا ونزرع أحلامَنا في بكاءِ الصغارْ.




http://www.alriyadh.com/2057394]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]