من الخسارة العظيمة أن يتخلى المسلم عن المعاني التي استلهمها من هذا الشهر، وينساها بمجرد إكماله، والمتخلي عن معاني الصيام وما تربَّى عليه أثناء الشهر لم يزد على أن خرج من واحة الأمان والطمأنينة مستثقلاً البقاء فيها..
ها نحن نكمل العدة بتوفيقٍ وفضلٍ من الله تعالى، فله الحمد وله الشكر على ما منَّ به علينا من إكمال الصيام والقيام، وبهذه المناسبة السعيدة أزفُّ أسمى التهاني إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين، وإلى مقام سيدي ولي العهد الأمين، أيدهما الله بتأييده وحفظهما بحفظه، وإلى سائر أبناء الوطن والأمة كافة بمناسبة عيد الفطر المبارك، سائلاً المولى أن يعيده حِقباً مديدة على قيادتنا ووطننا وأمتنا بالأمن والإيمان والعافية والرفعة، وإننا إذ نطوي صفحة هذا الموسم العظيم لنغتبط بما استلهمنا خلال هذا الشهر المبارك من الدروس الطيبة الأثر، وما تجدد لنا فيه من المعاني العميقة التي إذا لامست شغاف قلب المسلم نسي ما يُكابده من عناء الظمأ والجوع طيلة الأيام، ومن السهر والتعب أثناء القيام، فيخوض غمارَ المصاعب بصدرٍ منشرحٍ، ونفسٍ تواقةٍ إلى ما هي فيه، ويهون عليه ما يبذل من أنواع العطاء في سبيل تزكية نفسه، وتصفيتها من الشوائب، وتنقاد له جوارحه الظاهرة والباطنة إذا كفَّها عما لا يليق من الأعمال والأقوال والانطباعات، ولي مع الدروس المستفادة من شهر الصيام وقفات:
الأولى: الدروس الرمضانية فريدةٌ من نوعها، فهي تتردد سنويّاً على من يهتمُّ بها، لكنه لا يسأم منها، ولا يراها تكراراً، وتأتيه في كل مرةٍ بجديدٍ، وكأنه يتلقاها لأول مرةٍ، فيستقبلها استقبال المتعطش الذي طال انتظاره، وتُروي ظمأه الروحيّ إرواء الماء البارد ظمأ العطشان، ولا نعني بهذه الدروس معلوماتٍ معينة مدونة في الكتب يمرُّ بها بعض القراء في شهر رمضان، أو يجدد العهد بها فيه، بل نعني بها الآثار التي يجدها المسلم لهذه العبادات العظيمة المجتمعة في شهر رمضان، وهذه العبادات لا تترسخ معانيها في النفس بمجرد معرفتها النظرية المكتسبة من القراءة والاطلاع الخاليين من التطبيق؛ بل تترسخ بالعمل المقارن للإيمان بمن شرعها، ومن بلَّغها واحتساب الأجر في ذلك، والإتيان بها على الوجه المطلوب بحسب الإمكان والطاقة، ومن وُفِّق لفعل هذا لم يضرّه عدم المعرفة بتفاصيلها الدقيقة؛ فالمستفيد منها هو من صام وقام وأدى سائر سنن الشهر، من عمرةٍ واعتكافٍ وإنفاقٍ في أوجه الخير، وتلاوةٍ لكتاب الله تعالى، وكان فعله لهذه الأمور كما أمر الله تعالى وكما سنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وترغيباً، فمن وُفِّق لهذا انسابت المعاني الرمضانية إلى وجدانه مباشرة؛ لأن هذه الدروس إنما يتلقنها المسلم بواسطة هذه التشريعات المرتبطة بشهر رمضان؛ ولهذا نرى العامّي الذي لا يقرأ يستوعب تلك المعاني بالانقياد إلى ما بُيِّنَ له أنه المشروع، وبالإخلاص والاجتهاد في العمل، ويتجلى استيعابه لهذه المعاني في سلوكه وخشوعه وتيسُّر أنواع القربات له، هذا فيما يظهر لنا وما نرجو لمن أحسن عملاً، فيما نحسبه والله حسيب خلقه.
الثانية: الدروس الرمضانية لم تُشرع لنا لنمرَّ بها مرور الكرام فحسب، بل شُرعت لترشد المسلمَ إلى منهج التقوى، ومصداق ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فإنما كُتب علينا الصيام؛ لنتقي الله تعالى، وتقواه مما يلزم المسلمَ أن يداوم عليه حسب قدرته ما دام حيّاً، فنتيجة الصيام التي هي التقوى مستدامة وإن اكتمل شهر الصيام الواجب، ومطلوب من المسلم أن لا يقطع ما اكتسبه بواسطة التقيد بضوابط الصيام من الانقياد لله تعالى والانضباط، ومراعاة حقوق الخلق، والتسامي عن سفاسف الأمور، ومن الخسارة العظيمة أن يتخلى المسلم عن هذه المعاني التي استلهمها من هذا الشهر، وينساها بمجرد إكماله، والمتخلي عن معاني الصيام وما تربَّى عليه أثناء الشهر لم يزد على أن خرج من واحة الأمان والطمأنينة مستثقلاً البقاء فيها.
الثالثة: إذا كان من المطلوب الاستمرار فيما اعتاده المسلم أثناء رمضان، فأولى ما يتجسد به هذا الاستمرار ما ورد به النص الشرعي، من أنواع الصيام المستحب، وألصق نوافل الصيام برمضان صيام ستٍّ من شوال، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" أخرجه مسلم، وقد بُيِّن ارتباط هذا التنفل بفريضة الصوم وكونه متمماً له في حديث ثَوْبَانَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بِشَهْرَيْنِ فَذَلِكَ صِيَامُ سَنَةٍ"، أخرجه النسائي في الكبرى، والأحوط لمن أراد صيام الست وعليه قضاء أيام من رمضان أن يقضي الفرضَ، ثم يصوم الستَّ؛ لأن الفرض مُقدَّمٌ على غيره.
http://www.alriyadh.com/2069582]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]