إن هذه الدولة، التي يعتقد البعض أنها دولة فقيرة، هي موقع لأجمل المساجد الصغيرة التي يتم بناؤها في الوقت المعاصر على مستوى العالم ويوجد فيها مجموعة كبيرة من المعماريين الشباب الذين صاروا ينافسون معماريي العالم..
هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها "بنغلاديش"، والمرة الأولى التي أفكر فيها في معنى اسم هذه الدولة، فقد نشأ حوار طريف حول الاسم مع مجموعة من أعضاء المعهد البنغلاديشي للمعماريين (المؤسسة التي استضافتنا) نحن (فريق جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد) في الباص الذي أقلّنا إلى زيارة معهد المعماريين حول هذه المسألة. ذكر المعمار "محفوظ الحق زغلول" أن بنغلاديش مكونة من شقين الأول "بنغال" والثاني "ديش"؛ أي "أرض البنغال"، لكن لا أحد يعلم من أين أتت كلمة "بنغال"، لكن "الويكيبيديا" تقول إن الاسم مشتق من اسم قبيلة قديمة سكنت المنطقة منذ 3000 عام تقريباً اسمها "بنغا"، إلا أن زغلول يقول: إن هذه إحدى النظريات -ولا يوجد معلومة دقيقة- يمكن أن نقول إنها هي الصحيحة. نحن العرب نقول أن الأسماء لا تعلل، فبنغلاديش هي الأرض التي تتجمع فيها أغلب مياه الأمطار التي تهطل على الهمالايا، وهي بذلك أرض المياه العذبة. يجب أن أشير في البداية أنه لفت نظري في السنوات الأخيرة أن هذه الدولة، التي يعتقد البعض أنها دولة فقيرة، هي موقع لأجمل المساجد الصغيرة التي يتم بناؤها في الوقت المعاصر على مستوى العالم وأنه يوجد فيها مجموعة كبيرة من المعماريين الشباب الذين صاروا ينافسون معماريي العالم.
بالنسبة لي لم يكن الأمر مستغرباً كلياً لأني تعلمت على يد عدد من أساتذة العمارة البنغاليين في الثمانينات وبداية التسعينات، وزاملت عدداً منهم منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى اليوم في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، لكن لم يخطر ببالي أن أسأل أحدهم لماذا بنغلاديش متطورة في مجال العمارة. كنت أسمع -طبعاً- عن تأثير "لويس كان" الذي صمم مبنى البرلمان منذ نهاية الخمسينات واستمر لفترة طويلة عاشقاً لهذا البلد المكتظ بالسكان والمدهش بتنوع ثقافته وعمقها، لكن لم يخطر ببالي أن تأثير هذا الرجل كان عميقاً جداً حتى على فلسفة التعليم المعماري في هذا البلد الذي بدأ بإنشاء أول مدرسة للعمارة في جامعة بنغلاديش للهندسة والتقنية BUET عام 1962م، وهو تاريخ قريب من بدء "لويس كان" في تصميم مبنى البرلمان عام 1959م، وقريب من تأسيس أول قسم للعمارة في جامعة الملك سعود بالرياض 1967م. لم أجد في تقارب كل هذه البدايات مجرد صدفة بل هي دلالات، لِأبدأ بعلاقة "كان" بفلسفة التعليم في بنغلاديش وكيف يمكن أن يترك رجل واحد كل هذا التأثير، فعندما زرت أول قسم عمارة ذكر لي رئيس القسم أن "كان" زار القسم في بداية تأسيسه وقدم عدة محاضرات على مدى سنوات فقد استمر أكثر من تسعة أعوام في تصميم البرلمان وساعده أول معماري بنغالي "ظهير الإسلام"، تبدو القصة درامية هنا، لأن "كان" خلال هذه السنوات التسع لم يصمم مبنى بل درس العمارة البنغالية وفككها وأعاد تركيبها بشكل معاصر في ذلك الوقت، وتسلل إلى التعليم المعماري وعمل على صياغة الأفكار والتوجهات بشكل مباشر وغير مباشر.
لا يزال مبنى البرلمان مبهراً ومحافظاً على حضوره المؤثر في تسلسل تطور تاريخ العمارة المعاصرة بعد مرور أربعة عقود على افتتاحه (تم الانتهاء من بنائه عام 1984م)، لقد قمت والفريق، بزيارة للمبنى بترتيب خاص من معهد المعماريين في صباح اليوم الذي كتبت فيه هذا المقال، ولا تزال الأفكار التي قدمها المبنى قابلة للصمود لأنها تعاملت مع البنية الجوهرية التي قامت عليها الثقافة البنغالية وجمعت جوهر فلسفة المكان للديانات المعروفة في المنطقة الإسلام والبوذية والهندوسية مع فهم عميق للبيئة وتقديم تقنية الخرسانية بأسلوب حداثي ركز على النقاء واستخدام جوهر المادة لا أخفاها وهو أسلوب لا يزال يتبع حتى اليوم في المباني المعاصرة في بنغلاديش وبعضها حصل على جوائز عالمية، إذاً هذا الرجل ترك بصمة لا تمحى لأنه لم يقدم نفسه في تصميمه أكثر من تقديمه لثقافة وتاريخ ومجتمع بنغلاديش.
يبدو أن الأفكار العظيمة تشعر الناس بصدقها، لأن ظاهرة "لويس كان" في بنغلاديش حالة استثنائية. عندما حاولت أن أقارن الوضع مع التعليم المعماري في السعودية، لم أستطع أن أصل إلى نتيجة تجعلني أربط هذا التعليم بشخصيات معمارية عملت في المملكة في ذلك الوقت، فكرت في "دوكسيادس" وهو أقرب الذين عملوا في الرياض عندما بدأ التعليم المعماري لكن لم أجد أي تأثير يذكر، ما توصلت له هو أنه لم يتطور ارتباط حقيقي بين العالم المهني والعالم الأكاديمي في المملكة وهذا الانفصال مستمر حتى اليوم، لن تجد أحداً من المعماريين القدماء ولا حتى المعاصرين سيقول لك إنه تأثر بمعماري عمل في المملكة وتعلم منه أو أن أستاذه في الكلية سينقل له تجربة مؤثرة في الوجدان المعماري المهني والتعليمي. رغم العدد الهائل من المشاريع التي بنيت والتي ستبنى، لم تساهم في خلق ذاكرة معمارية مشتركة كما عمل "لويس كان" الذي خلق ذاكرة معمارية بنغالية استمرت حتى اليوم بعد مرور 65 عاماً على بدايتها.
سوف أعد هذا المقال مجرد مقدمة للحديث عن دكا في مقال مقبل، فليست العمارة هي كل ما يمكن أن تراه في هذه المدينة اللافتة التي تعيش تحت ضغوط بشرية يصعب التعامل معها، لكن المثير هو أن كل يوم يظهر شيء جديد من تحت الركام يؤكد أن هناك شيئاً ما ينتظر هذه المدينة، فهي تحظى بمحبة وتضحيات من يسكنها. هذا ما شعرت به من حديث زملائي المعماريين في هذه المدينة، أنهم يتحدثون عنها بمحبة وفخر. وإلى لقاء آخر...
http://www.alriyadh.com/2072186]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]