الحقيقة أن الحداثة المعمارية السعودية لم تكن إلا محاولة لإرضاء التحولات المجتمعية نحو الحداثة التي لم تكن مستقرة ومقنعة بشكل كافٍ، فظهرت العمارة شبه "مترددة" ولم ترتبط بعمق بحاجة المجتمع الثقافية، ربما تكون هذه الظاهرة أخف اليوم لكنها لا تزال مؤثرة..
كل ظاهرة اجتماعية يصحبها منتجات مادية تحاول أن تعبر عنها بشكل أو بآخر، ومن خلال متابعة موجات التحول نحو الحداثة في المجتمع السعودي يمكن أن نقول إن ذلك التحول شكل موجات لكل واحدة منها خصائصها ومنتجاتها. الموجة الأولى في الخمسينات وكانت موجة اكتشف فيها السعوديون أن هناك عالما يختلف عن عالمهم وعمارة لا تشبه عمارتهم، أما الموجة الثانية فقد كانت في الستينات من القرن الماضي وكانت تمثل موجة استيعاب الحداثة، أما الموجة الثالثة التي ظهرت في السبعينات وما بعدها فقد كانت مرحلة تبني الحداثة وعمارتها، لكنه تبني مشوب بالتردد إلى حد كبير.
قصة الحداثة في السعودية لا يمكن فصلها عن العمارة وتحولاتها المضطربة أحيانا، خصوصا مع نشوء ظواهر الـ "مع والضد لفكرة الحداثة ذاتها". يقدم هذا المقال مقدمة سريعة لتطوير منهجية نقدية موازية للسرد التاريخي لتطور العمارة السعودية أثناء تحولها الحداثي في فترة السبعينات من القرن الماضي. تعتمد المنهجية الموازية على إيجاد توازن بين تسلسل الأحداث التاريخية المعتمد على وقائع ثابتة وبين التفسيرات المختلفة التي عادة ما تثار حول الأسباب التي أدت إلى اتخاذ قرارات عمرانية محددة. يدور الجدل النقدي حول السؤال عن خلق هذا التوازن الذي يعطي الوقائع قيمتها وتأثيرها ويقدم قراءات موازية مرتبطة بتحولات الفكر العمراني والمعماري في العالم في نفس السياقات الزمنية للوقائع العمرانية.
سوف ننحاز إلى نوع محدد من العمارة دون غيره كونه نوعا ساهم بشكل واضح في التأسيس لهوية العمارة السعودية المعاصرة خلال الخمسة عقود الأخيرة. ولأن العمارة تبحث عن التغيير وتدور في فلك التجديد، خصوصا العمارة المعاصرة، لذلك فإنه من الضروري النظر لعمارة المؤسسات، أي المباني التي نشأت منذ مطلع السبعينات الميلادية لخدمة مؤسسات الدولة والقطاع الخاص في مدينة الرياض على وجه الخصوص، على أنها العمارة التي توفرت لها قوة القرار السياسي والوفرة المالية، الأمر الذي جعل منها منتجا معماريا بمثل المرحلة بكل تفاصيلها.
ما نسميه "العمارة المؤسساتية" هي عمارة نتجت كأحد النتائج غير المباشرة لمخطط "دوكسيادس" الذي تم اعتماده في مطلع السبعينات، ونعتقد أنها في نفس الوقت أنها شكلت مفصلا مهما في رصدنا لعمارة الحداثة في طورها المتأخر، ففي تلك الفترة كانت الحداثة، بصيغتها النقية التي وضعها الرواد الأوائل، قد انتهت تقريبا ولكن قبل أن نتطرق لأثر نهاية الحداثة على العمارة المؤسساتية في الرياض يجب أن نعيد القول، إن المنهجية تركز على تتبع الأفكار والنتاج المعماري الذي ترتب عليها. هذا المنهج يفرّق بين أسلوبين في الطرح، الأول: أن الحقائق المرتبطة بالفكرة المعمارية تقدم في قالبها التوثيقي الذي لا مجال فيه للرأي، حتى وإن كانت بعض الحقائق غير ثابتة تماما. أما الأسلوب الثاني فهو "التفسير" أو الرأي الذي يقدمه الكاتب حسبما يراه وما يعتقد أنه يتناسب مع سياق تطور الحقائق والأفكار والتي ارتبطت بها، وهذا الأسلوب هو مسؤولية من قدم التفسير. وفي كل الأحوال يجب على كل تفسير ألا يتجاوز الحقائق لكن يمكن أن يدور في فلكها ويتوسع في بيان تأثيرها.
نعتقد أن الحداثة المتأخرة، خصوصا التوجه "الوحشي" Brutal Architecture بعد الحرب العالمية الثانية ترك أثره العميق على مفاهيم عمارة الحداثة وغيّرها من جذورها. هنا كذلك يجب أن نتوقف عند طرحنا للمصطلحات، فعندما نقول عمارة الحداثة فنحن نقصد المبادئ الأولى لتلك العمارة في بساطتها ونقائها التي تطورت في النصف الأول من القرن العشرين، وعندما نقول الحداثة المتأخرة نقصد بها حداثة ما بعد الحرب الثانية، وهذه مصطلحات ستختلف كليا عن مفهوم "ما بعد الحداثة" و"العمارة الإقليمية" و"التفكيكية" و"الحداثة الجديدة" فهذه الأطوار للحداثة لا تشير إلى عمارة ومدرسة تفكير واحدة، إذ إن البعض يعتبر أن جميع هذه المصطلحات تُعبّر عن عمارة الحداثة في أطوارها المختلفة. والحقيقة أنه يستحيل عمل أي قراءة نقدية منهجية إذا لم نُفصّل في تحولات أطوار الحداثة فكل طور له قواعده وله أسباب وجوده وله منتجه المعماري الذي يميزه. في ظل هذا التوجه، سوف نعتبر العمارة المؤسساتية طور من أطوار عمارة الحداثة في الرياض لها مسببات وجودها ولها منتجها المعماري الذي يميزها.
مناخ العمارة العالمية في السبعينات كان يشير بوضوح إلى الحاجة إلى فكر جديدة يتجاوز عمارة الحداثة الوحشية لكن الرياض كانت لا تزال في طور التشكّل وكانت عمارة المؤسسات التي قام بتصميمها عدد كبير من المعماريين العالميين في ذلك الوقت، بما في ذلك "مينرو ياماساكي" الذي كان مشروعه في "سانت لويس" سببا في إعلان موت العمارة الحديثة. فبين عامي 1959 و 1961م قام "ياماساكي" بتصميم مطار الظهران في المنطقة الشرقية، وساهم بعد ذلك بتصميم مبنى مؤسسة النقد في الرياض عام 1970م. وقد قام "ياماساكي" بعد ذلك بتصميم مطار الملك فهد الدولي بالدمام والقاعة الملكية في مطار الملك عبدالعزيز في جدة، وجميعها تشير إلى تغير واضح في المناخ الفكري العام لعمارة الحداثة. يصعب فهم العمارة المؤسساتية في الرياض دون البحث في توجهات المعماريين الذين أنتجوا تلك العمارة في تلك الفترة وارتباطاتهم الفكرية. كما أنه من الضروري فهم الفروقات بين أفكارهم التي قدموها في الرياض والأفكار التي قدموها في أماكن أخرى في العالم.
أحد الملاحظات المهمة هي أنه رغم هذا الزخم المعماري الكبير إلا أنه افتقر إلى التجريب، فقد كانت العمارة المؤسساتية السعودية "وظيفية" بشكل مباشر مع أن تلك الفترة تميزت بتطور مفهوم "تخليق الأشكال" Form Finding الذي كان يقوده المعماري الألماني "فراي أوتو". والحقيقة أن الحداثة المعمارية السعودية لم تكن إلا محاولة لإرضاء التحولات المجتمعية نحو الحداثة التي لم تكن مستقرة ومقنعة بشكل كاف فظهرت العمارة شبه "مترددة" ولم ترتبط بعمق بحاجة المجتمع الثقافية، ربما تكون هذه الظاهرة أخف اليوم لكنها لا تزال مؤثرة.




http://www.alriyadh.com/2078194]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]