وظيفة الإنسان العليا أن يعبد ربه سبحانه وتعالى؛ تحقيقاً للحكمة التي لأجلها خلقه ربُّه، والمبيَّنة في قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)، وإنما تتم عبادة الله تعالى بالانقياد لأوامره واجتناب نواهيه، ويكون ذلك باتباع ما شرعه الله تعالى من العبادات في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، والابتلاء الذي ينطوي عليه التكليف بعبادة الله تعالى لا ينجح فيه حقَّ النجاح إلا من صبر على وظائف العبادة فأداها كما شرعت، وهذا الصبر لا يقتصر على حبس النفس على مشقة تحصيل المأمورات، وكفها عن المنهيات التي تتوق إلى كثيرٍ منها، ولا تصرف عنها إلا بلجامٍ من التقوى، بل يتناول الصبر على سلوك المنهاج المستقيم، وتسليم قيادة النفس إلى الشرع، وليس هذا النوع من الصبر بأقل شأناً من سابقيْه؛ فإن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم الله تعالى، وهي توَّاقةٌ إلى التدخل في تفاصيل الأمور، ومن الناس من يبتلى بإعطاء عقله الهيمنة فيما يأتي وما يذر، ومنهم من يعطي عاطفته هذه الصلاحية، وقليل منهم من لا يقدم على اتباع السنة شيئاً، ولي مع الاتباع وقفات:
الأولى: أوجب الله تعالى على عباده اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لهم الحرية في أن يعبدوه بما شاؤوا، والمنفعة في التزام هذا التحديد عائدةٌ إلى العبد، أما الخالق سبحانه وتعالى فغنيٌّ عن عباده، لا يزداد ملكه بدقتهم في عبادته، ولا ينقص بتقاعسهم عنها، وقد قال في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) أخرجه مسلم من حديث أَبِي ذَر رضي الله تعالى عنه، وقد فاز من اتبع السنة النبوية ولم يخرج عنها يميناً ويساراً، فلا يتعبد إلا طبق ما علم أنه المأمور به، ولا يخترع شيئاً من عند نفسه ثم يحاول أن يأتي له بما يرقعه به من الشبهات الخارجة عن منهج العلماء الربانيين والأئمة المتبعين في الاستنباط، وبهذا يهتدي إلى اجتناب التقدم بين يدي الله ورسوله المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أن هَذَا أَمْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَصَفَ الله تعالى بِهِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون»، فالمتبع الذي لا يتقدم بين يدي الشرع جارٍ على صفةٍ للملائكة وهي عدم سبق الله تعالى بالقول، وهذا هو الانقياد التام.
الثانية: الصراط المستقيم المأمور باتباعه مرادفٌ للسنة بمعناها الأعم الوارد في النصوص النبوية كقوله عليه الصلاة والسلام: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)، أخرجه أبو داود وغيره، ومصدر تلقي السنة بمعناها الأعم يشمل القرآن الكريم، والسنة بالاصطلاح الأخص - أي أقوال النبي وأفعاله وتقريراته - والإجماع، والقياس الصحيح فيما يسوغ فيه القياس، وبضوابط القياس المتقررة في الأصول، وما ثبت بسائر الأدلة التي يأخذ بها الأئمة على طبق الاستنباط الصحيح، فأما الكتاب والسنة فواضحٌ أنهما مصدر التلقي عن الله ورسوله، وأما ما بعدهما فهي إما دليلٌ مُستندٌ إليهما كالإجماع فلا بد له من مستندٍ من أحدهما وإن لم يذكر، وإما دليلٌ معقولٌ منهما كالقياس ونحوه، ويقع الغلط من بعض الناس في مفهوم السنة، فيأخذ نصّاً نبويّاً، ويتمسك بظاهره، ويَنسب إلى البدعة من تمسك بدليلٍ آخر يُخصص ذلك أو يقيده، واجتزاء الأدلة وبتر بعضها عن صلته ببقية الأدلة من أسباب الوقوع في البدع والفتن.
الثالثة: التعبد بما لم يشرعه الله تعالى في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مجردُّ عنَتٍ يُبتلى به من وقع فيه، وهو إتعابٌ للنفس فيما لا يعنيها، ومن وجد في نفسه قوةً في العمل ففي المشروع ما يستوعب تلك القوة، ومعلوم أن أتقى الناس لله نبيُّنا عليه الصلاة والسلام، وأن عبادته الفعلية والقولية نُقلت إلينا، سواء في ذلك ما يفعله أمام الملأ من أصحابه فنقلوه، وما يفعله في بيته، فنقلته زوجاته رضي الله عنهن، فالموفق من اقتدى به فيه، ولا تعدو الزيادة عليه أن تكون تنطعاً وتضييعاً لبعض ما يجب أو يستحبُّ، فمثلا: الأذكار الواردة عنه تغطي جميع أحوال المسلم، فمن التزم بغيرها فإما أن يكون أخلَّ مقابلَ ذلك ببعض الأذكار النبوية، أو غطى بما استحدثه مكاناً لغيره من الواجبات أو المندوبات، وكلاهما غبن.




http://www.alriyadh.com/2080143]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]