الأحداث الرياضية أصبحت رابطا أساسيا بين التحديات الإنشائية والفلسفة المعمارية المحلية، بصورة أخرى يمكن أن نقول إن العمارة أصبحت جسرا مهما بين الرياضة والثقافة، وهذا الجسر تمثل دوما في التحديات الكبيرة التي تفرضها الطبيعة الوظيفية والهندسية الإنشائية التي تمثل جوهر المباني الرياضية..
خلال فترة وجيزة تصاعدت وتيرة أعلان السعودية عن إنشاء مجمعات رياضية استعدادا لتنظيم مجموعة من الأحداث الرياضية على رأسها كأس العالم عام 2034، ويبدو أن علاقة العمارة بالرياضة علاقة تاريخية فمنذ "الكولسيوم" الروماني وما قبله وما بعده، شكلت المنشآت الرياضية تحديا معماريا وإنشائيا أمام المعماريين وساهمت في إنضاج الفكر المعماري، خصوصا في القرن العشرين الذي شهد التجمعات الرياضية العالمية مثل كأس العالم 1930م وأولمبياد 1896م. منذ ذلك الحين يمكن أن نقول إن الأحداث الرياضية أصبحت رابطا أساسيا بين التحديات الإنشائية والفلسفة المعمارية المحلية، بصورة أخرى يمكن أن نقول إن العمارة أصبحت جسرا مهما بين الرياضة والثقافة، وهذا الجسر تمثل دوما في التحديات الكبيرة التي تفرضها الطبيعة الوظيفية والهندسية الإنشائية التي تمثل جوهر المباني الرياضية وكيف يمكن أن تعبر هذا المنشآت عن الثقافة المحلية.
هذا ما لفت انتباهي في كأس العالم الأخيرة في قطر، وأذكر أنني كتبت مقالا في هذه الصحيفة الغراء بعنوان "عمارة كأس العالم" حاولت فيه أن أتتبع الرسائل المحلية التي حاولت قطر أن تبعث بها للعالم في عمارة الاستادات الرياضية التي بنتها من أجل تنظيم كأس العالم 2022م. يجب أن أقول إنه طالما استثمرت العمارة للتعبير عن الرسائل السياسية أو الدينية والثقافية والمباني الرياضية ليست بدعا في ذلك لكن كانت هناك صعوبات في تطويع أشكالها قبل التطور التقني الملفت منذ الربع الأخير من القرن العشرين. توزعت الأفكار التي تبنتها قطر بين الرسائل المباشرة التي تمثلت في الخيمة البدوية والطاقية وبين رسائل رمزية لم يتم تفكيكها نقديا بالصورة الكافية التي تجعلنا نفهمها بشكل واضح. لكن ما حدث في كأس العالم الأخيرة لفت الانتباه إلى العمق الثقافي الذي يجب أن تقدمه المباني الرياضية رغم وظيفتها المحضة، فارتباط الرياضة بالثقافة في الأحداث الجماهيرية المحلية والعالمية أصبح مطلبا مهما ويمثل الطريق الأقصر الذي يمكن أن نصل به إلى العقول الشابة، فماذا نريد أن نقول لهم يمكن أن تقوله عبر اللغة الصامتة للعمارة. هذا ما تنبهت له وزارة الرياضة والمؤسسات الأخرى المعنية ببناء المنشآت الرياضية في المملكة، فنحن نعيش الجيل الثالث من المباني الرياضية ذات المضمون الثقافي، فمن استاد الملك فهد، الذي قدم فكرة مبكرة ومتطورة جدا دمجت بين فكرة الخيمة والنظم الإنشائية فائقة التطور إلى استاد الجوهرة في جدة الذي يعكس بشكل أو بآخر طبيعة جدة البحرية وأخيرا استاد الملك سلمان الذي سيمثل بحق نقلة نوعية في مفهوم العمارة المحلية التي طالما ارتبطت برؤية الملك سلمان العمرانية التي امتدت قرابة سبعة عقود ومرت بمراحل تطور ونضج يعبر عنها تصميم هذا الاستاد المتفرد في شكله وتقنيته رغم أنه يشير رمزيا إلى البيئة المحلية الجبلية التي يتصدرها جبل طويق بتكويناته المتفردة غير المتوقعة. نفس هذا الإحساس يظهر في استاد القدية وإن كان التوجه والتكوين يأخذنا إلى المستقبل دون أن يقطع علاقتنا بالحاضر والماضي. أتصور أن يتكرر هذا التنوع في باقي المنشآت الرياضية الأخرى خصوصا استاد أرامكو في الخبر الذي أعلن عنه مؤخرا.
لا يمكن فصل استاد الملك سلمان واستاد القدية عن المرحلة المتأخرة لرؤية الملك سلمان العمرانية، ويبدو أن هذه الرؤية التي تركز على النهايات المحلية المفتوحة بعد أن خاضت في مراحلها السابقة تجربة النهايات المغلقة التي كانت تنتج عمارة تاريخية متوقعة وتيقنت أن المستقبل يحتاج إلى التنوع والتجديد والإبقاء على الثقافة المحلية وفي نفس الوقت يتطلب استثمار التقنيات المتفوقة، كل هذه التحديات كانت أم التصميم الذي اختير لاستاد الملك سلمان من بين 6 تصاميم عالمية مبتكرة لكن يبدو أن التصاميم الأخرى لم تحقق النجاح الكافي الذي يخولها التعبير عن جوهر الرؤية السلمانية العمرانية وهو الجمع بين "الابتكار" و"الاستمرارية". يبدو لي أن فلسفة هذه الرؤية مبنية على مبدأ "التوليد" توليد الأشكال غير المحدودة رغم الارتكاز على نطاق واحد يمثل النواة الإبداعية المحلية التي تتولد منها هذه الأشكال، يظهر كذلك أن مبدأ توليد الأشكال المرتبط بالنواة الإبداعية المحلية يتطلب "الدراية" و"الجرأة" وهاتان الميزتان لا يتمتع بهما إلا قلة من المعماريين حول العالم.
أعود إلى "عمارة الرياضة" أو "عمارة كأس العالم" التي يبدو أنها ستشكل فارقا مهما في العمارة السعودية المستقبلية كونها ستطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة حول العمارة والرياضة والثقافة وعلاقة كل منهم بالآخر. وربما الأسئلة الأهم ستكون حول تعريف "الوظيفة" و"المبنى الوظيفي" الذي طالما اتخذ عذرا لتفريغ العمارة من محتواها الثقافي. استاد الملك سلمان واستاد القدية وقبلهما استاد الملك فهد تقدم تحديا جديدا للوظيفة كمصطلح وتثير الكثير من الأسئلة حول العمارة المحلية مفتوحة النهاية التي طالما كانت الهاجس الأساسي للرؤية السلمانية في العمارة.




http://www.alriyadh.com/2087989]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]