أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثرت بالدروينية البيولوجية، وكانت هناك حديقة تعرض 400 شخص، أحضروا من خارجها، ليشاهدهم الأوروبيون، وكأنهم حيوانات، لمجرد أنهم ينتمون لأعراق أقل تطورا وحضارة، في رأيهم، تماما مثلما فعلوا مع سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر، عندما وضعوهم في محميات..
الاعتبارات النفعية لا الأخلاقية أصبحت تتحكم في الأزمات والحروب الحالية، وتقوم بمحاسبة المنظمات الأممية التي تصدر قرارات صحيحة أخلاقياً، ولدرجة يمكن القول معها بارتياح تام، إن قوانين ما قبل التاريخ، في الحضارات السومرية والبابابلية والأغريقية، وحتى في الحضارتين الرومانية والصينية القديمة، كانت أكثر إنصافا وفروسية وعدلاً، مقارنة بالمعمول به دوليا في هذه الأيام، وأتصور أنه في جزء منه، يرتبط بالدروينية الاجتماعية واليوجينيا الخارقة، التي تكلم عنها فريدريك نيتشه، في كتابه: هكذا تكلم زرادشت، وكلاهما بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، واللافت أن رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل، سجل في مذكراته المنشورة عام 1992، كلاماً يؤخذ على سياسي مثله، ولكنه في نفس الوقت يؤكد ما سبق، فقد كتب أن النمو الشاذ لضعاف العقول والمتخلفين، يشكل خطرا قوميا وعرقيا على أوروبا، ولا بد من إيقافه، والفكرة البيولوجية لتشارلز داروين تم تحويلها لأيديولوجيا، في الحرب العالمية الثانية، واستثمرتها النازية والماركسية والرأسمالية، وذلك في تصحيح سلمها الاجتماعي والاقتصادي، من خلال الإبادة العرقية والبروليتاريا وسيادة الرجل الأبيض.
فقد قام هتلر في 1933، بتعقيم أربعمائة ألف شاب من الأقليات، وأقام مشروع لإنهاء حياة المعاقين والمرضى النفسيين، ومعهم أصحاب الأمراض المزمنة بالقتل المباشر، في الفترة ما بين عامي 1940 و1945، وكلهم كانوا من الألمان، وذكرت سوسن جورج، المدير الأسبق لشؤون الشرق الأوسط في الأمم المتحدة، في كتابها: تقرير لوغانو، الذي صدر عام 2001، أن مجموعة من اليمين الأميركي وأنصارهم في أوروبا، اجتمعوا عام 1992، في مدينة لوغانو السويسرية، للاتفاق على برنامج يضمن سيادة الجنس الأبيض على العالم، وتوصلوا إلى أن الرأسمالية الغربية لن تستمر، في ظل الزيادة السكانية العالمية، والحل هو في الحد من تكاثر الأجناس الملونة، وبما يسهم في التخلص من (الأفواه الجائعة)، ولعل السابق يفسر صراعات الدول الأقل حظاً في أفريقيا والمنطقة العربية، والعبارة ذاتها ذكرها هنري كسينجر في تقرير كتبه عام 1974، ولكنه صاغها بطريقة مختلفة، فقد أسماهم بـ(الآكلون عديمو الفائدة).
قبل هذا جاء الاستعمار الغربي ليعزز تفوق الرجل الأبيض، وأنه يمثل نقلة نوعية للدول المستعمرة، من التخلف والهمجية إلى التحضر والمدنية، وهو ما لم يحدث أبدا لا في الماضي ولا في الحاضر، والإشكالية تبدو في ارتباط هذه الأفكار بحضارة داروينية مادية، لأن (العلموية) تعامل الأخلاق والدين باعتبارها أشياء غير قابلة للقياس والتجريب، ولا يصح إدخالها في العلم التجريبي، المستخدم في الأغراض الطبية أو الزراعية، أو في تحلية المياه، أو في تصفية آلاف المدنيين في وقت واحد، أو السماح لها بحرية تقييد المجهودات العلمية.
إلا أن الفيلسوف البريطاني (رودجر ريدج) يعتقد بالانهيار الحتمي لكل العلوم التي تفتقد إلى السند الميتافيزيقي، بمعنى أنها لوحدها مجرد أداة، وليس في استطاعتها إقامة سردية كاملة عن الوجود والحياة والأخلاق، ولا يمكن بالتالي استخدامها كمسوغ لممارسة العنصرية ضد بقية الأعراق، وعدم احترام حقوقهم، بحجة أنهم مشوهين أو ضعفاء أو صعاليك، كما يقول البيولوجي النمساوي (ماكس يول غروبر) ومن ثم إعلان حرب لا تتوقف عليهم، ومن وجهة نظر أرسطو، الهدف النهائي للحرب هو السلام، ولا يفترض تحويلها إلى وسيلة لإذلال الشعوب واستعبادها، واعتبارهم أجناس أدنى تستحق الإبادة، والعجيب أن المؤرخ (ستيورت ايستون) أوضح في كتابه عن التراث الغربي، بعدم وجود سبب موضوعي يلزم الإنسان بأن يكون أخلاقياً، أو يفعل أشياء بلا مردود، وهذا منطق استهلاكي لا يمكن التفاهم معه، خصوصاً وأن بنوك الأجنة والهندسة الوراثية للفواكه والخضروات والحيوانات، تقدم نموذجاً معاصراً لتطبيقات نظرية داروين.
أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثرت بالدروينية البيولوجية، وكانت هناك حديقة تعرض 400 شخص، أحضروا من خارجها، ليشاهدهم الأوروبيون، وكأنهم حيوانات، لمجرد أنهم ينتمون لأعراق أقل تطورا وحضارة، في رأيهم، تماما مثلما فعلوا مع سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر، عندما وضعوهم في محميات، وأشار الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر، ابو الدروينية الاجتماعية، بأنه كلما كان الشخص ناضجا عقليا وذكيا كلما قل نسله، وأرجع الخصوبة وكثرة الولادات إلى البلادة في العقل، ولا يوجد دليل بيولوجي أو أخصائي، يربط ما بين الخصوبة وتراجع القدرات الذهنية، وفي كلامه إحالة واضحة على الأفارقة والعرب.
حكاية الإنسان لا يمكن اختصارها في البيولوجيا، أو في ظاهرة يمكن تحييدها، والواجب أن تدخل فيها الأديان والميثولوجيا والعلوم الإنسانية، ونظرية التطور موجودة قبل داروين، والذي فعله أنه قام بتأصيلها علمياً، فقد عرفها العرب منذ تسع مئة عام، في قصة (حي بن يقظان) للفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل، وتحديداً في تشكله جنيناً من ماء الحفر المتخثر، وحتى تناسخ الأرواح، وانتقال الأروح الجيدة إلى حياة أفضل تقوم على فرضية مشابهة، ولكنها تعتمد المفهوم الروحي وليس الجسدي، وتحمله مسؤولية أحداث الطفرة الجينية.




http://www.alriyadh.com/2089727]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]