الوجه الآخر لثقافة التجاهل هو مقدرة من يعمل بصمت على تجاوز التهميش أو من يقلل من شأنه ومن عمله، فالبشر لا يواجهون امتداد ثقافة التفاهة وانتشارها فقط، بل إن هناك توجهًا متزايدًا للتقليل من شأن العمل الجاد وتحقيره.. وأتذكر هنا ما تشير له الآية الكريمة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، فمن طبيعة البشر استصغار الآخرين وتحقير أعمالهم، خصوصًا إذا لم توافق هواهم..
العالم يدور دورات سريعة ويتغير بوتيرة أسرع، تتغير معها أخلاق البشر فيصعب اتخاذ مواقف محددة من الناس الذين تتعامل معهم. في ثقافتنا الشعبية نقول دائما أن «الذي ما يعرفك ما يثمنك» أو نقول «الذي ما يعرف الصقر يشويه»، وكلها تشير إلى حدوث مواقف لأشخاص لم يعطوا قدرهم الذي يستحقونه. إنه نوع من التجاهل المؤلم، فنسمع كثيرا عن تهميش شخصيات تركت أثرا عميقا في محيطها الاجتماعي والمهني لكنها انتهت وحيدة معزولة لا يذكرها أحد، هذا ما ذكره الفنان المصري عمر الشريف في إحدى المقابلات عندما قال إن كل ما حققته لا يساوي شيئا أمام وجودي في محيط اجتماعي وأسري يشعرني بالألفة، فأنا أعود إلى البيت وحيدا حزينا وأشعر بالانقباض، وكم من شخصية رحلت مهمة رحلت وحيدة لم يشعر بها أحد، تذكر قصة مشهورة لعباس محمود العقاد مع المنولجست «شكوكو» فهذه القصة تبين كيف يفكر الناس وماذا يتبعون، على أن التجاهل والتهميش أثناء الحياة أكثر صعوبة وأشد ألما على كثير من الناس، وخلال هذا الزخم من طغيان التفاهة وهيمنة التواصل الاجتماعي، الذي أتاح للتافهين فرصة الصعود والهيمنة، ازداد شعور كثير من الذين نذروا حياتهم لخدمة الناس فكريا وعلميا بالعزلة، فهل لا يزال هناك من يعمل من أجل أن يبقى عمله في الأرض أو أن الزبد طغى على كل شيء.
يمكن أن نقول إن هذه الظاهرة موجودة عبر التاريخ، لكنها تطورت بشكل مذهل في العقدين الأخيرين، ويمكن أن نعزي السبب إلى «المؤسسة الإعلامية» التي تميل إلى الاهتمام بالقضايا غير الجادة لوجود قناعة أن الناس تهتم بالترفيه وبالأخبار الخفيفة أكثر مما أصبح يسمى «القضايا المتخصصة». بل إن المتابع للمنتج الفكري والأدبي الذي كان يطغى على الصحافة سوف يجد تحولا عميقا في نوعية القضايا وعمق الكتابة وحجمها، الصحف لم تعد تتحمل المقالات الطويلة «فالناس لا تقرأ»، وأصبح من الذكاء أن توصل الفكرة بأقل الكلمات فخير الكلام ما قل ودل، حتى لو أن المسألة تتطلب التفكيك والإسهاب. يكمن هذا التوجه في نظرية تطورت مؤخرا، لا أعلم مدى صحتها، وهي أن البشر بطبيعتهم يميلون إلى المسائل المسلية والبسيطة ولا يريدون أن يشغلوا أنفسهم بالقضايا الجادة، انعكست هذه النظرية على التعليم والعمق الذي يجب أن يصل له الطالب فخريج الابتدائية قبل 70 عاما أفضل من خريج الجامعة اليوم، على الأقل في قدرته اللغوية والتعبيرية، وبما أننا في بداية العام الدراسي، ومع تزايد الذكاء الاصطناعي في عمل الواجبات والبحوث المدرسية فمن المتوقع أن تصبح مهمة التعليم أكثر صعوبة ومهام المعلم الجاد شبه مستحيلة.
الوجه الآخر لثقافة التجاهل هو مقدرة من يعمل بصمت على تجاوز التهميش أو من يقلل من شأنه ومن عمله، فالبشر لا يواجهون امتداد ثقافة التفاهة وانتشارها فقط، بل إن هناك توجهًا متزايدًا للتقليل من شأن العمل الجاد وتحقيره، أتذكر هنا ما تشير له الآية الكريمة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، فمن طبيعة البشر استصغار الآخرين وتحقير أعمالهم، خصوصا إذا لم توافق هواهم. وفي اعتقادي أن تطوير القدرة على تجاهل مثل هذا الاستصغار والتهميش أصبح مهارة ضرورية في الوقت الراهن وفي المستقبل. فالقرآن يقول «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم»، وكأنه يشير إلى أن هذه الحياة اختبار كبير لمن يريد أن يترك أثرا في الناس، فمن يتبع طريق التفاهة هم الغالبية وطريق العلم الجاد محفوف بالأشواك، في كل عام أبدأ علاقتي بطلاب الدكتوراه بقولي إن كل باحث أمامه طريقان، أحدهما يسير ويوصل إلى الحصول على الشهادة والآخر صعب ومحفوف بالمخاطر ويوصل في النهاية إلى نفس الهدف، الأول لا يعلمك كثيرا ولا يصنع منك عالما أما الثاني فهو طريق يجبرك على التعلم والبحث عن الحلول.
ما يغري كثيرا من الذين يفترض أنهم يصنعون المعرفة بانتهاج الطرق السهلة والتحول إلى أنصاف علماء ويصنعون ما يشبه المعرفة هو طغيان تجاهل العمل الجاد وتوجه المؤسسات العلمية والمهنية إلى مؤسسات غير مكتملة الوعي، فهي تندهش من أي شيء وكل شيء، طالما أنها لا تملك المعايير الكافية التي تستطيع بها التفريق بين الغث والثمين. ويبدو لي أن إصلاح هذه المؤسسات التي تمكن منها الجهل فيه صعوبات كبيرة لأن بنيتها البشرية تطورت عبر أجيال كي تشجع المعرفة العابرة غير العميقة التي لا تمكث في الأرض ولا تحدث أي تغيير، عندما تهتم أي مؤسسة بالشكل على حساب المضمون فهذا يشير قطعا إلى أن «المعرفة الجادة» تغيب تماما عن أذهان من يدير هذه المؤسسة.
بقي أن أذكر أن «الوعظ» غير مجدٍ، وأعلم يقينا أن ثقافة التجاهل في شقها الأول تحتاج إلى إعادة هيكلة لمفهوم المعرفة التي نريد أن نصنعها، وهذا يتطلب إعادة التفكير في المؤسسة العلمية والمهنية والإعلامية، فبناء جيل يصنع المعرفة ويصدرها للعالم لا يحدث إذا كان توهم إنتاج المعرفة هو السائد، وإذا كانت تلك المؤسسات تنصت إلى أشباه العلماء لأن صوتهم هو الأعلى وتهمل من يعمل في صمت.




http://www.alriyadh.com/2090101]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]