فيروز غلاف الصباحات لكل الأجيال، إكسير الغناء الذي يمتد به العمر لتتعاقب عليه الأجيال، صوتها البارد والدافئ معاً استطاع دائماً أن يجمع الليل بالنهار في لحظة اختصّت بها دون غيرها من الفنانين العرب على مدى أكثر من سبعين عاماً، إنه صوتها الممتدّ من أول الحنين حتى آخر الشجن، من فتنة الورد حتى هجيع المنازل، من دوخة الرقص حتى عودة المقاتل، استطاعت فيروز أن تجمع الأجيال على عناقها في صباحات المدن العربية العابسة، حيث ظلت دائماً وجهة الأذواق المختلفة عندما استطاعت وبذكاء مدهش تحويل مفهوم الحب في الأغنية العربية من حب الآخر إلى حب الوجود فيه!
يفتح صوتها لنا دائمًا بوّابة النهار، هكذا تغني لنا كل يوم ذات الأغنيات فنستزيد منها بها، وتأخذنا من ظلال البنايات الشاهقة وزحام السيارات، لنطارد معها فراشة في حديقة الستينات من القرن الماضي، لا أعرف كيف جمعت فينا النخبوية والعفوية معاً، عمق الرؤيا وبساطة الموقف، ثم لا نملّ من استعادتها لنسمعها أول مرة في كل مرّة..!
لا نعرف عن فيروز إلا أنها ملهمة الوجود للشعراء، وإطار الأحلام للفنانين، ولذة الحقيقة للفلاسفة، الحب في أغنيتها إنساني الملامح دائماً وصوفي اللحظة، في صوتها مدينة من الملح والسكر يرمي الناس فيها نفاية أوجاعهم على أرصفة الظلال، وفي حضورها عرس الناي وطريق النحل وانتباهة الصباح لليل، اجتمعت الأجيال عليها حين تغرّب الغناء فينا واختطفته الصورة وغيّبه الإغراء وابتذلته الكلمة، في صوتها تأويل رؤيوي قادر دائماً على أن ينشر الدفء في معاطف البرد، فضلاً عن نخبويتها الغنائية على مستوى اللحن والكلمة، لفيروز حنجرةٌ من خلود تميزت بتفرّدها النادر على مدى عصور الغناء العربي، فالصوت الفيروزي لا يكاد يتقاطع أو يتشابه مع أي من الفنانين في كل عصور الغناء العربي، ومن المستحيل أن تخطئ الأذن فيه يوماً وهو ما لم يتوافر لغيرها من الفنانين، إضافة إلى قدرة هذا الصوت على استيعاب جميع أشكال التفرّد والتغريب في اللحن، وهو ما أدركه الرحابنة وأسسوا من خلاله مشروعهم الموسيقي المختلف والمنعزل عن سياق الأغنية العربية في زمن الطرب الجميل.
عن علاقتها بالشعر والشعراء فليس إلا مساحة من الرؤيا وانعتاق من الوحدة وسلام مع الشجن، ففيروز التي اختطّ الملحّنون من خلال صوتها تجريبهم وتغريبهم ومحاولاتهم الدائمة في اختراق النمطي والسائد من الألحان الشرقية، انتقت دائماً من قصائد الشعراء نخبويتهم ليس على مستوى القصائد الفصحى كمواكب جبران أو الموشحات الأندلسية أو غيرها من القصائد ذات الأبعاد النفسية المؤثرة، بل حتى على مستوى المحكي، والمتأمّل مثلاً لأغنياتها الأشهر على مدى تاريخها يلمس بوضوح تلك الكلمة السهلة الممتنعة والنخبوية في رؤياها، وحسبنا مثلاً أغنيتها الوطنية الشهيرة (سوارة العروس) من كلمات جوزيف حرب، والتي جاء فيها:
(لما بغنّي اسمك بشوف صوت غِلِي
إيدي صارت غيمة وجبيني عِلِي
الشمس بتطلع سودا وبيبس الموج
إذا بفكّر إنه ترابك مش إلي)
وغيرها من أغانيها ذائعة الصيت، مثل: (عتم الليل، أسامينا، أنا عندي حنين) إلخ.
إنها فيروز صوت الحياة وعصفورة الوجود وخارطة الصباحات المسالمة، تلك التي قال عنها أنسي الحاج: «ليتني ألمس صوتها».




http://www.alriyadh.com/2093188]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]