لطالما كانت فكرة المسار المهني التقليدي هي القاعدة التي بُنيت عليها حياة الأفراد العملية؛ حيث كان من الشائع أن يتقن الموظف مهارة واحدة أو يتخصص في مهنة معينة، ويمارسها طيلة حياته حتى التقاعد.
هذه الرؤية للمهنة ترتكز على استمرارية العمل في نفس الوظيفة أو المجال دون الحاجة إلى التغيير أو تطوير مهارات جديدة بشكل مستمر؛ فنجد الصحفي مثلاً يكتب طوال أربعين عاماً بالقلم ذاته والروتين ذاته دون أن يشعر بضرورة تغيير مساره أو أدواته، ويظل المبرمج أو المهندس في مجاله التقني لعقود، متكئًا على خبرته المتراكمة دون أي حاجة للتغيير أو تهديد من المنافسين أو الممارسات الجديدة لمهنته.
هذا النموذج القديم كان يوفر نوعًا من الاستقرار والطمأنينة، حيث كان بإمكان الفرد أن يبني حياته المهنية على أساس ثابت وطويل الأمد، لكن هذه الفكرة أصبحت غير متماشية مع الواقع المتسارع الذي نعيشه، إذ أدى التقدم التكنولوجي، وتسارع تدفق المعلومات، وتقاطع التخصصات المختلفة إلى تغيير جذري في كيفية النظر إلى المسارات المهنية.
ومع سرعة التغير والتحديث المستمر، الذي نعيشه اليوم، أصبح من الضروري للاستمرار في العمل اكتساب مهارات جديدة والتعلم بسرعة، ولكن بالمقابل، فإن هذه المهارات لا تكفي لضمان استمرارية مهنية طويلة الأمد، إذ سرعان ما تصبح غير مجدية أو قديمة نتيجة للتطور المستمر، وبالتالي؛ وُلدت الحاجة إلى نموذج جديد من الحياة المهنية، نموذج يتطلب من الأفراد القدرة على التكيف المستمر مع المتغيرات وتعلم مهارات جديدة على مدار الحياة، وإلا فإن سوق العمل سيتخلى عنهم تدريجيًا.
الواقع الحالي فرض سباقًا وظيفيًا مستمرًا، يتطلب من الموظف ألا يكون مكتفيًا بمسار مهني ثابت، بل أن يتحلى بالمرونة والقدرة على تطوير نفسه بشكل مستمر، إذ لم تعد المهارة الواحدة أو التخصص الواحد كافيين لضمان استمرارية النجاح في بيئة عمل تتطلب التكيف مع التقنيات الحديثة والتغيرات المستمرة في السوق، حيث أصبحت القدرة على التكيف وتعدد المهارات أحد أهم معايير النجاح المهني.
هذا لا يعني بالضرورة أن التخصص التقليدي فقد أهميته بالكامل، على العكس، ما زال هناك قيمة كبيرة في التعمق في مجال معين واكتساب خبرة طويلة فيه، لكن هذه الخبرة لم تعد كافية بمفردها، بات من الضروري على الموظف أن يدمج بين الخبرة العميقة في تخصصه والقدرة على اكتساب مهارات جديدة، هذه المهارات المتعددة، التي قد تبدو غير مرتبطة في بعض الأحيان، هي التي تسمح له بالتنقل بين التخصصات أو حتى تطوير مساره المهني ليواكب المتغيرات السريعة.
يمكن اعتبار هذا النموذج الجديد بمثابة سباق طويل، حيث يُطلب من الموظف أن يركض باستمرار لتعلم ما هو جديد وتحديث معرفته، وما يزيد من تحديات هذا السباق هو أن التكنولوجيا باتت تفرض وتيرة غير مسبوقة للتغيرات، لذلك، أصبح من المهم أن يكون لدى الموظف استعداد ذهني لمواجهة هذه التحديات وتقبل أن التغيير جزء أساسي من الحياة المهنية.
ولا شك أن المثال الأبرز هنا هو: تحدي الذكاء الاصطناعي؛ فمع تزايد انتشار تقنياته وتطورها، أصبح من الواضح أن العديد من الوظائف التقليدية باتت مهددة بالزوال أو على الأقل بالتغير الجذري؛ فالمهام الروتينية والمتكررة التي كان يعتمد عليها الكثير من الموظفين في الماضي أصبحت تُنجز الآن بواسطة الآلات والخوارزميات بكفاءة أعلى وبسرعة أكبر.. وهذا يفرض على الموظفين أن يدركوا أن التحدي ليس في المواجهة أو التجاهل، بل في التكيف مع هذه التطورات وتعلم كيفية العمل معها، بدلاً من الاعتماد فقط على الممارسة التقليدية التي قد تصبح غير ضرورية في المستقبل.
إن مفهوم المسار المهني التقليدي لم يعد كافيًا لضمان النجاح، إذ نعيش في زمن يتطلب التكيف المستمر وتعلم المهارات الجديدة بشكل دائم، وبينما كان الماضي يُقدّر الخبرة الطويلة في مجال واحد، فإن المستقبل سيعتمد بشكل أكبر على القدرة على التكيف والتعلم المتواصل وتنوع الخبرات، فلم يعد مهمًا أن تكون خبيرًا في مهارة واحدة، بقدر أهمية أن تكون قادرًا على تعلم وتطوير مهارات جديدة باستمرار، لتظل دائمًا في مقدمة السباق الوظيفي، وجاهزًا لاقتناص الفرص.




http://www.alriyadh.com/2094802]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]