تعد الوحدة الألمانية والتي تحققت في 3 أكتوبر 1990م واحدة من أكثر اللحظات بهجة في تاريخ شعبنا، ومازالت حتى يومنا هذا مصدراً للفخر والاحتفال بالنسبة لجميع الألمان، فقد نجحنا في إعادة توحيد بلدنا بعد ويلات الدمار التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية وكذلك بعد عقود من التقسيم.
نحتفل هذا العام بمرور 34 عاماً على هذه اللحظة التاريخية، إضافة إلى ذلك فإننا نحتفل باليوبيل السبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية ألمانيا الاتحادية والمملكة العربية السعودية.
إن هذا الحدث البارز لا يعكس سبعة عقود من الروابط الدبلوماسية فحسب، بل إنه يأتي تجسيدًا لأواصر صداقة تاريخية وتعاون وثيق واحترام متبادل بين شعبينا.
هناك حلقة وصل بين يوم الوحدة الألمانية واليوبيل السبعين للعلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، وهي تتمحور حول الوحدة والشراكة والأهمية التاريخية، فالعلاقات الوطيدة، سواء كانت تربط بين أبناء شعب واحد أو بين بلدان مختلفة، تؤول لها أهمية جوهرية في التغلب على التحديات وتعزيز التقدم، مما يسهم في النهاية في جعل العالم أكثر استقراراً ورخاءً وترابطاً.
لقد نمت وتطورت علاقاتنا مع المملكة عبر العقود، وتواءمت خلال ذلك مع المشهد العالمي المتغير واحتياجات الشعوب. لطالما تميز الرابط الذي يصل بين ألمانيا والمملكة بالالتزام المشترك نحو التقدم والتنمية، فهناك الشراكات الاقتصادية من جانب والتبادل الثقافي من جانب آخر، وكذلك الابتكار التكنولوجي وأيضاً التعاون التعليمي.
إذا ما نظرنا إلى المجال الاقتصادي، نجد أن التبادل التجاري بيننا عاش حالةً من الازدهار، إذ إن ألمانيا أحد أبرز الشركاء التجاريين للمملكة، وقد ساهمت الشركات الألمانية بشكل حاسم في تطوير البنية التحتية السعودية وقطاع الطاقة والسعة الصناعية في السعودية.
يوجد اليوم أكثر من 800 شركة ألمانية تمارس نشاطها في المملكة، وتساهم بشكل فعال في تحقيق رؤية 2030، ويدعمها في عملها مكتب الاتصال الألماني السعودي للشؤون الاقتصادية (Gesalo)، كذلك فقد أسهمت الاستثمارات السعودية في ألمانيا في تحقيق النمو والتنويع الاقتصادي في البلدين على حد سواء.
انطلاقاً من هذا الأساس المتين، نقوم أيضاً بإعداد أنفسنا من أجل المستقبل، إذ يشترك بلدانا في هدف تحقيق صافي الانبعاثات الصفري في كل من عام 2045م وعام 2060م. هذا الهدف يتطلب عملية تحول دقيقة في مجال الطاقة على المستوى العالمي بالإضافة إلى جهود مشتركة.
وقد أظهرت زيارة الوزير الألماني للاقتصاد وحماية المناخ روبيرت هابك إلى المملكة، قبل عدة أشهر من العام الجاري أن مساعينا متضافرة من أجل المضي قدماً في طريق التحول.
إن تطبيق اتفاقية باريس لهو مسؤولية كبيرة، بيد أن هذه المسؤولية تفتح أبواباً جديدة للتعاون التكنولوجي والعلمي والاقتصادي بين المملكة العربية السعودية وألمانيا، في هذا الإطار يلعب مكتب دبلوماسية الهيدروجين الألماني هنا في الرياض دوراً مهماً ويقوم بتسهيل تعاوننا المشترك في مجال الهيدروجين والطاقات المتجددة.
إنني على قناعة بأن التزامنا المشترك وتعاوننا الجيد من شأنهما أن يمهدا طرقاً جديدة نحو مستقبل يتميز بالاستدامة والرخاء على حد سواء.
لطالما كان التعليم حجر زاوية في شراكتنا، وما تزال المدرسة الألمانية العالمية في الرياض، والتي تأسست قبل 50 عاماً، رمزاً لتعاوننا التعليمي. أما المبادرات مثل المنح التعليمية المقدمة من الهيئة الألمانية للتبادل العلمي (DAAD) والشراكة الطبية بين المملكة ومستشفى «شاريتيه» برلين فقد نجحت في إثراء العقول الشابة في البلدين وعززت صداقات تمتد لأعوام طويلة.
أما التبادل الثقافي، فقد وطد العلاقات التي تربط بيننا بشكل أكبر، فسواء نظرنا إلى المعارض الفنية أو إلى المهرجانات الموسيقية، فإن هذه المبادرات تمكن الألمان والسعوديين على حد سواء من معايشة الإرث الثقافي الثري للشعبيْن وتقديره. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في شهر أبريل من هذا العام، قام أوركسترا دريسدن السيمفوني الألماني بعزف الموسيقى خلال العرض الأول، لأول أوبرا سعودية في الرياض، بالإضافة إلى ذلك يلعب معهد غوته في الرياض دوراً أساسياً في النشاط الثقافي، مع وجود عدد كبير من السعوديين المتحمسين لتعلم اللغة الألمانية.
أيضاً يثبت المعهد الألماني للآثار، والذي يباشر أعماله في المملكة منذ 20 عاماً، كل يوم من جديد أن التنقيب المشترك في الماضي من شأنه أن يفتح آفاقاً جديدة للتعاون في المستقبل، يساهم المعهد في الحفاظ على التراث الأثري السعودي وفي الترويج للأهمية الثقافية لمدينة العلا، على المسرح الدولي بالتوافق مع رؤية 2030.
أخيراً وليس آخراً يأتي مجال الرياضة، حيث تشغل المدربة الألمانية مونيكا شتاب حالياً منصب المديرة الفنية لمنتخب المملكة النسائي لكرة القدم. أيضاً يساهم ماتياس يايسله في الدفع بكرة القدم إلى الأمام من خلال تدريبه فريق الأهلي السعودي.
ونحن بصدد الاحتفال باليوبيل السبعين للعلاقات الدبلوماسية، توجد جملة من الأسباب التي تدعو للتفاؤل نحو المستقبل، بيد أننا ننظر إلى التحديات الماثلة أمامنا بكل واقعية، إن ألمانيا تواصل التزامها غير المتزعزع نحو الأمن والاستقرار العالميين، وينعكس هذا التركيز في مساهمتنا في إدارة الأزمات على المستوى الدولي، وتطويرنا لأول استراتيجية للأمن الوطني في العام الماضي، مما يعد خطوة هائلة لبلدنا.
وفي معرض الحديث عن الأمن، فإن النزاع المتواصل في غزة إضافة إلى المخاوف الأمنية المتصاعدة بين لبنان وإسرائيل، يتطلبان كامل اهتمامنا وجهودنا من أجل نزع التصعيد، وقد حضرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في بداية شهر سبتمبر لهذا السبب بالتحديد مجدداً إلى الشرق الأوسط، وقامت بمباحثات مع صاحب السمو الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية، من الواضح تماماً أنه لن يوجد حل عسكري سواء بالنسبة لغزة أو للضفة الغربية. نحن بحاجة إلى إنهاء حلقة العنف، كما أنه يجب الإفراج عن الرهائن، كذلك فنحن بحاجة إلى التوصل إلى هدنة إنسانية والتزام بحل الدولتين. نحن ندعم بشكل كامل حق الفلسطينيين في تقرير المصير، أما بالنسبة للحدود الإسرائيلية - اللبنانية، فنحن بحاجة إلى تطبيق القرار الأممي رقم 1701 لكي يستطيع الناس على جانبي ما يسمى بالخط الأزرق العودةَ إلى بيوتهم.
إن المعاناة التي يعيش فيها المدنيون في أعقاب الحرب أمر لا يمكن قبوله. ولهذا السبب بالتحديد تعد ألمانيا أحد أكبر المانحين للمساعدات الإنسانية في المنطقة، ونحن نتعاون كذلك بشكل وثيق مع البلدان العربية لبحث سبل إعادة الإعمار في غزة، وإرساء نظام سياسي وإداري وأمني جديد.
لقد أبرزت الحرب الروسية ضد أوكرانيا جوانب ضعف الأمن لدينا، وحفزتنا على إعادة التفكير ومضاعفة جهودنا من أجل الحفاظ عليه، يستمر هذا الإدراك في تشكيل سياساتنا وأولوياتنا، إن تبعات الحرب الروسية لا تقف عند حدود أوكرانيا أو أوروبا، بل يشكل خطراً على الأمن العالمي.
إن مناصرة بلدان العالم لسيادة الدول وسلامتها الإقليمية أمر ذو أهمية، ولم تتردد ألمانيا في القيام بذلك عندما قام صدام حسين بغزو الكويت في عام 1990م، مهدداً بذلك ليس فقط الكويت وإنما استقرار المنطقة بأسرها. وبينما نسعى جميعاً من أجل تحقيق السلام، فإنه من الأهمية بمكان أن ندعم الآن جهود أوكرانيا من أجل الترويج لسلام شامل وعادل ودائم، يحترم سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية. من هذا المنطلق فقد أصبحت ألمانيا ثاني أكبر داعم لأوكرانيا في العالم، وأكبر داعم لها داخل أوروبا. والسبب في ذلك، ليس أننا نبحث عن المواجهة مع روسيا، بل لأننا نريد الحرب أن تنتهي ونبتغي عودة السلام والأمن لأوروبا.
ترحب ألمانيا كل الترحيب بالمؤتمريْن ذوي الأهمية حول أوكرانيا، اللذيْن استضافتهما المملكة في كل من جدة والرياض. فهما يمثلان جزءًا من مساعي المملكة المتواصلة في الوساطة، وهو أمر نكن له عميق التقدير.
في عالم لا يمكن لأمة أن تقف وحيدة فيه، تكتسب التحالفات والشراكات أهمية جوهرية من أجل التغلب على التحديات العالمية، سواء دار الأمر حول الحرب والسلام، أو تغير المناخ، أو التعاون الاقتصادي والتكنولوجي أو بكل بساطة التواصل بين الأفراد، أتطلع بسرور إلى تعميق الشراكة الألمانية - السعودية من أجل بناء مستقبل أكثر إشراقاً وأمناً، والآن، وبعد إتمامي عامي الأول في المملكة العربية السعودية، فإنني واثق من وجود المزيد من التقدم الذي نتطلع إليه.
سفير جمهورية ألمانيا الاتحادية
http://www.alriyadh.com/2097382]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]