أهم محرك للتنمية الاقتصادية في أي بلد هو القطاع اللوجستي، لأنه الشريان الرئيس الذي يغذي اقتصادات الدول من خلال زيادة حجم التجارة وتنويع الصادرات، وتدفق رؤوس الأموال عبر الاستثمار الأجنبي المباشر؛ لذلك تعمل الدول على تطوير وتنمية هذا القطاع بالوسائل كافة التي تدعم الحركة اللوجستية وتنمي مشروعاتها وتعمل على استدامتها. ويُقصد بالقطاع اللوجستي جميع الأنشطة التي يتطلبها انتقال البضائع من المنتج إلى المستهلك كالنقل والتخزين والشحن والتخليص الجمركي وأنظمة التمويل، والتسليم السريع، وإدارة المعلومات والبيانات. ويعرّف البنك الدولي "اللوجستيك" بأنه شبكة الخدمات التي تدعم الحركة المادية للبضائع داخل الحدود وخارجها، فهو فن وعلم بإدارة تدفق البضائع والطاقة والمعلومات من منطقة الإنتاج إلى منطقة الاستهلاك.
وثمة الكثير من الدول التي بنت نهضتها الاقتصادية على القطاع اللوجستي، مثل سنغافورة التي كانت بلداً يفتقر للموارد ومنخفض الدخل ثم تحولت إلى أغنى بلدان آسيا؛ كونها أصبحت مركزاً عالمياً للخدمات اللوجستية، لامتلاكها مقومات النجاح كالموقع الاستراتيجي، والاستقرار السياسي ورأس المال البشري المسلح بنظام تعليمي عالٍ يركز على التدريب الفني واللوجستي، ونظام ضريبي وجمركي يتميز بالكفاءة والسرعة في الإنجاز وبأقل التكاليف، وبنية تحتية عالمية محوكمة بمنظومة إجراءات مبتكرة وسريعة تستخدم أحدث التقنيات لتسهيل عمليات النقل والشحن والتفريغ، وإقامة شبكات ربط كثيفة مع مئات الموانئ حول العالم وإبرام اتفاقيات للخدمات الجوية والتجارة الحرة؛ كل ذلك وضع سنغافورة بالمرتبة الأولى في مؤشر الأداء اللوجستي عالمياً عام 2023م بحسب البنك الدولي.
إن الموقع الاستراتيجي لبلادنا يجعلها من أهم الدول التي يمكن أن تقدم الخدمات اللوجستية للتجارة العالمية؛ فهي تتوسط قارات (آسيا، وأوروبا، وأفريقيا)، وتمر عبرها أهم خطوط التجارة العالمية، ولديها موانئ بحرية مهمة على الخليج العربي والبحر الأحمر الذي تمر عبره 13 % من التجارة العالمية، ما يؤهلها لأن تكون من أهم المراكز اللوجستية وإدارة سلاسل التوريد في العالم، خصوصاً بعد الإعلان في العام الماضي عن الممر الاقتصادي الذي سيربط الهند بأوروبا عبر أراضي المملكة، مما سيسهم في خفض تكاليف الشحن وزمن العبور ويجعل المملكة قوة اقتصادية عالمية؛ بامتلاكها مصادر الطاقة من جانب، وتحكمها بسلاسل الإمداد من جانب آخر.
وقد شهدت الرياض الأيام الماضية انطلاق النسخة الأولى من المنتدى اللوجستي العالمي الذي تناول إعادة رسم خريطة الخدمات اللوجستية العالمية، بحضور عدد من أصحاب المعالي الوزراء وكبار المسؤولين، وقادة المنظمات الدولية والاتحادات الصناعية وعدد من الخبراء والأكاديميين والمحللين من 30 دولة، وأوضح فيه وزير النقل معالي المهندس صالح الجاسر أن المملكة تسعى لتشكيل مستقبلها اللوجستي، إذ إن أكثر من 40 % من الناتج الإجمالي العالمي يمكن الوصول إليه عبر المملكة خلال 6 ساعات، بواسطة البنية التحتية المتطورة التي يتم إنشاؤها، مثل مطار الملك سلمان الدولي والموانئ البحرية الحديثة وزيادة طول شبكة السكك الحديدية، وأن الاستراتيجية اللوجستية التي أطلقتها المملكة منتصف 2021 تستهدف استثمار أكثر من تريليون ريال بحلول 2030، منها 200 مليار ريال أُنفقت بالفعل.
وحتى تصبح المملكة حلقة وصل للتجارة العالمية ومقصداً للاستثمارات الأجنبية ومقراً للشركات الرائدة في مجال الخدمات اللوجستية عليها أن تمتلك بنية تحتية متطورة تستخدم التقنية العالية وتتحكم بها منظومة إجراءات سريعة ودقيقة، مثل التشغيل الآلي، والروبوتات، والطائرات بدون طيار، والحوسبة السحابية، وأن تستخدم الذكاء الاصطناعي في دراسة ديموغرافية وسلوكية مستخدمي أنماط النقل، والتنبؤ بالطلب المستقبلي، وتأهيل كوادر وطنية في مجال اللوجستيات والتخصصات المرتبطة به من خلال إنشاء المعاهد المتخصصة بالتعاون مع الشركات العالمية، وتسهيل الإجراءات الجمركية والضريبية، وربط جميع المراكز اللوجستية ببعضها من خلال شبكة من القطارات السريعة، سواء في الموانئ البحرية أو الجافة أو المطارات أو على الحدود، وبما أن الموانئ البحرية أهم المراكز اللوجستية في أي بلد أتمنى العمل على توسعتها واستخدام أحدث التقنيات فيها، والاستفادة من تجربة ميناء سنغافورة الذي يعد أكبر ميناء مؤتمت في العالم، والاستفادة من نموذج ميناء "تواس"، الذي تقدر مساحته بنحو 3300 ملعب كرة قدم، ويضم 66 رصيفاً آلياً يمتد على مسافة 26 كيلومتراً للتعامل مع أكبر سفن الحاويات، ويقدر حجم مناولة الميناء 65 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدماً عام 2040م بحسب الحكومة السنغافورية، وهنا تجدر الإشارة إلى اعتماد مدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية كأول مدينة صناعية متكاملة في الشرق الأوسط بحصولها على النطاق البلاتيني في مجال الريادة والطاقة والتصاميم البيئية، وأتمنى التركيز على اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول بخاصة في أفريقيا وآسيا الوسطى وربط السوق التجاري السعودي بالأسواق التجارية في تلك الدول، والعمل على خلق خطوط ملاحية وجوية تربط المملكة بهذه الأسواق؛ مما سيزيد من حجم الصادرات وتنوعها، وسرعة النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات وتعزيز التجارة البينية، كما أتمنى تعزيز مشاركة القطاع الخاص في الإجراءات الخاصة بالقطاع اللوجستي، وإبداء رأيه في البنية التحتية الجاري إنشاؤها، للتأكد من أنها تلبي الاحتياجات الفعلية للنشاط اللوجستي، وتشجيعه للانخراط فيه؛ فالشراكة القوية مع القطاع الخاص تضمن استدامة المبادرات من الناحية التجارية على المدى الطويل.
أخيراً، كل الشكر والتقدير لحكومتنا الرشيدة على ما تبذله لجعل مملكتنا الغالية وجهة استثمارية رائدة ومركزاً لوجستياً عالمياً إذ إن القطاع اللوجستي هو الشريان الذي يضخ الدماء في عروق الاقتصاد، وأختم بقول الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-: "لدينا فرص ضخمة لخلق خدمات لوجستية، سواء في الطيران أو في الموانئ أو في المجمعات الصناعية".




http://www.alriyadh.com/2099318]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]