الماء أنزله الله جلت قدرته حياة ونماءً وبقاءً لكل الكائنات الحية على هذه البسيطة، ولقد ذكره ومجَّده وأشاد به رب العزة والجلال في عدد من آيات كتابه المجيد ومنها قوله عز من قائل: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا" الفرقان: 54‏، كذلك قوله تبارك وتعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ" ‎الأنبياء:30، كذلك قوله جل وعلا: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ" ‎السجدة:27‏، وفي آية أخرى يقول أصدق القائلين: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ" فصلت:39، كذلك في آيات أخرى: "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ‎* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ‎الواقعة:69،68. لذلك، نستلهم من نفحات هذه الآيات الكريمة أن الماء نعمة من أجَلِّ النعم التي أفاء الله بها على هذا الكون وأنه مصدر حيوي وضروري له أهمية قصوى لحياة البشر والحيوانات والنباتات وسائر الكائنات الحية قاطبة. والماء من النعم التي يتعيَّن على المسلم أن يقتصد في استعمالها واستهلاكها حتى ولو أخذها من نهر جارٍ كما رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فكأنه عليه الصلاة والسلام رأى من سعدٍ إسرافًا في الوضوء فقال له: ما هذا السَّرَفُ يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سَرَفٌ يا رسولَ الله؟ قال: نعم، ولو كنتَ على نهرٍ جارٍ. نعم، كان هذا هو قول أفضل الخلق وسيد البشر رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي علينا أن نتأسَّى به ونحذو حذوه، كان يتوضأ بالمِـدِّ (أقل من اللتر)، ويغتسل بالصاع (أقل من ثلاثة لترات). ولعلنا نستلهم من موقف نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مع سعد بن أبي وقاص إشارات واضحة في زمننا الحاضر إلى أهمية استخدام الماء بشكل عقلاني من شأنه أن يحافظ على ديمومة هذه النعمة وتوافرها على الدوام. ومن الحقائق التي يجب أن نعيها عن الماء أنه نظرًا لمكانته وحيويته كان -ولا يزال- سببًا للاستيطان والعيش والاستقرار، حيث قامت الحضارات قرب مصادر المياه والينابيع والأنهار. وفي المراحل الأولى لنشوء المجتمعات كانت المياه الرئيسة تستخرج من آبار تتملكها القبيلة أو الأفراد الذين قاموا بحفرها، ولشح المياه وندرتها فإن حيازة هذه الآبار والاستحواذ عليها لا يتم إلا بعد منازعات قتالية دموية عندما يكون الطلب على المياه أعلى من المعروض والمتاح منها، ولكن مع مراحل النمو والتطور المتلاحقة وتزايد عدد السكان واتساع الأنشطة التجارية وتنامي المنشآت العمرانية وارتفاع الدخل فقد أدى كل هذا إلى تعاظم الطلب على المياه مما تخطى حجم المعروض منها الأمر الذي فرض تبعًا لذلك اللجوء إلى ضرورة تقنين توزيعها وترشيد استهلاكها. وبالنسبة لوضع المياه لدينا في المملكة فقد كان هناك ندرة في المياه وكان الحصول عليه يتم من خلال حفر الآبار وصولاً إلى الطبقات المائية قليلة العمق مما يؤمن الحاجات الأساسية والضرورية فقط للسكان المحدودي العدد. بيد أن الأحوال والظروف تغيرت واختلفت، فقد شهدت المملكة بفضل الله حركة تنموية شاملة غطت كافة القطاعات والميادين، مقرونة بتسارع في معدلات نمو السكان واتساع العمران وتحسُّن مستويات المعيشة الأمر الذي أدَّى إلى زيادة الطلب على المياه وتفاقم الوضع نتيجة التوسع في نشاط القطاع الزراعي مما شجع على حفر الآبار واستخراج المياه غير المتجددة، ونتج عنه تفاوت في توزيع حصص المياه لصالح سقيا القطاع الزراعي على حساب سقيا القطاع السكاني، فالتوسع في النشاط الزراعي وتسارع نمو السكان والطبيعة القاحلة وندرة إمدادات مصادر المياه الطبيعية كل ذلك أدى منفردًا أو مجتمعًا إلى تعاظم الطلب على المياه لكل من القطاعين الزراعي والسكاني الأمر الذي نجم عنه نقص وشح في المياه وتراجع في الكميات المتوفرة منه وحرمان مجموعة من السكان من الحصول على الكميات الكافية من تلك المياه، وباتت ندرة الماء -يوماً بعد يوم- تمثل معضلة مُلحَّة تلقي بظلالها القاتمة على مسيرة التنمية ولتصبح العقبة الأساسية الكأداء في إعاقة تقدم وتطور المجتمع. لذلك، أضحت الحاجة ماسة وملحةٍ لتطوير وسائلٍ وطرقٍ وأدواتٍ ملائمةٍ لإدارة الطلب على المياه، وذلك من خلال الإدارة المتكاملة أو الشاملة لموارده، حيث تتكامل فيها الخطط والبرامج وتتضافر فيها جهود جميع القطاعات المعنية ضمن إطار اقتصادي واجتماعي يأخذ في الاعتبار هموم وآمال وتطلعات جميع المعنيين والمستفيدين والمتضررين من ندرة المياه، وينبذ ما عهدناه سابقًا من أساليب تقليدية في التعامل مع موارد المياه ويتم التعامل معه على أساس وعي ثقافي جديد ينظر إلى المياه كمنفعة اجتماعية واقتصادية وكمصدر محدود قابل للنضوب، حيث إن للثقافة دورًا حاسمًا ودافعًا إيجابيًا في تقويم وإصلاح الكثير من القضايا، ويكون لتعاليم الإسلام إلهام روحي وحافز محوري في التعامل مع هذه القضية، فأيُّ خطة تنطلق من هذا المحور تكون فعَّالة ويُكتب لها التوفيق والنجاح بإذن الله. وحيث إن لتعاليم الإسلام وتوجيهاته في نبذ الإسراف والهدر نفوذ وتأثير قوي وفطري على المجتمع السعودي المسلم، لذلك فاستثمار قنوات الاتصال في بث المفاهيم والتوجيهات الإسلامية في الحفاظ على الموارد المائية لذو أثر واضح وملموس في رفع مستوى الوعي والإرشاد والتوجيه وتحسين وتهذيب سلوك المستهلك تجاه المياه، وبذلك يرسخ مفهوم الاقتصاد والترشيد وحسن الاستعمال في استهلاك المياه كمفهوم ثابت في الإسلام وكطريقة حياة لا بد من تبنيها وتطبيقها والعمل بها وليست مجرد حل مؤقت يصار اللجوء إليه في أيام الشح أو في ظل أزمات عارضة، بل في جميع الأوقات، حسنة كانت أم سيئة، في الرخاء أم في الشدة. لذا، فإن إدارة الطلب على المياه تستوجب تضافر الجهود ومشاركة جميع شرائح وفئات المجتمع للتوعية لتغيير نمط وسلوك كيفية استخدام واستهلاك المياه، وذلك من خلال وسائل وقنوات الإعلام المتعددة المرئية والمسموعة والمقروءة، وعبر مؤسسات التعليم وأئمة المساجد، لأن علاج ظاهرة الإسراف في استهلاك المياه يحتاج إلى استراتيجيات فاعلة وخطط دائمة وجهود مستمرة تتبنى المفاهيم والتوجيهات الإسلامية في حملات التوعية وطرح الآليات والإرشادات والملصقات والبرامج التي تخاطب العقل والسلوك والفطرة لدى المستهلك لترشيد استخدام المياه والمحافظة عليها. وهذه الحملات يجب أن تقام بصورة دورية ومستمرة ومنتظمة، لأن الجهود المحصورة في مجرد نصائح وتوصيات عابرة تنصب وتنحصر في الاستخدامات المنزلية مثل استبدال الأدوات الصحية «السيفونات» أو تركيب الأدوات المرشّدة أو زيادة تعرفة المياه أو الحملات المؤقتة والعارضة قد لا تجدي نفعًا أو تحقق نتائج مرجوة إذا لم يكن الغرض منها إحداث تغيير مستدام في أنماط سلوك المستهلك وتوفير استهلاك المياه في مرافق وقطاعات متعددة تشمل الري والزراعة والصناعة والمساجد والفنادق والمستشفيات والمطارات والاستراحات وصالات الأفراح ومراكز التسوق وشريحة السكان ذات الاستهلاك المميز.
إن حملات الترشيد تسير بنظام متشابك ومتداخل ومتعدد الجوانب، بدءًا بالتوعية وانتهاءً بتوفير الأدوات والتقنيات وشرائح التعرفة، وجميع هذه الجوانب ينبغي أن ينظر إليها من حيث علاقتها بسياقها الاقتصادي والاجتماعي والديني، كعناصر أساسية من عناصر الإدارة المتكاملة لموارد المياه. ويشكل التعليم والتثقيف والتوعية العامة عناصر أساسيًة وضرورية لضمان مشاركة ومساهمة جميع أفراد المجتمع في الحفاظ على الثروة المائية. ومن المعلوم أن المسجد يشكل المكان الأفضل لمخاطبة المجتمع، كما أن صلاة الجمعة تمثل فرصة أسبوعية لمخاطبة جميع أفراد وشرائح المجتمع. إن تعاليم وتوجيهات الإسلام رسائل فعالة ومؤثرة قادرة على الوصول إلى أذهان وقلوب كافة شرائح وفئات المجتمع، سواءً في البيت أو الشارع أو المدرسة أو الجامع أو الجامعة. إن التوعية مسؤولية مشتركة وشاملة ولنجاح هذه المهمة فلا بد من مشاركة المستهلكين ووزارة البيئة والمياه والزراعة ووزارة الشؤون الإسلامية للتعاون وتنسيق الجهود وتقاسم الأدوار وتبادل المعلومات، كما لا ينبغي استبعاد دور الأئمة والوعاظ في هذه الحملات، فدورهم مؤثر وفاعل إذ هم أقدر من خبراء المياه في التأثير على سلوكيات المجتمع بعد أن يتم تزويدهم بمعلومات عن وضع الموارد المائية وما يواجه المجتمع من نقص وشح في المياه، وذلك بهدف تأصيل مفهوم الترشيد والمحافظة عليه كجزء من مفهوم الإدارة الشاملة والمتكاملة لموارد المياه. كذلك، يمكن تناول هذا الموضوع في المدارس والجامعات ومؤسسات التعليم من خلال مواد الدين واللغة العربية والعلوم والجغرافيا وإعداد ندوات ومحاضرات للطلبة والطالبات وسيدات البيوت حيث على المجتمع أن يدرك أهمية المياه كمصدر للحياة والبقاء وضرورة العناية بها والمحافظة عليها، وتوفيرها لهذا الجيل والأجيال القادمة من منطلق التنمية المستدامة.
لقد دأب الكثير من المختصين والباحثين والمهتمين يتوقعون أن العالم مقبل على أزمة مياه كبيرة ستعاني منها الكثير من الدول، حيث إن الزيادة السكانية في العالم لم تقابلها زيادة مماثلة في مخزون العالم من المياه، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك عندما تنبأ بأن شح المياه سوف يكون السبب الرئيس لحروب العالم القادمة. وإدراكًا من حكومتنا الرشيدة بأهمية هذه الثروة الحيوية، بدأت المملكة قبل فترة حملة إعلامية شاملة بهدف الترشيد في استهلاك المياه التي لا غني عنها لاستمرار الحياة، وقد لا يدرك الكثيرون من المواطنين والمقيمين في هذا البلد الاستثمارات الضخمة والتكاليف الباهظة التي تنفقها وتتحملها الدولة لكي تصل المياه إلى كل بيت وبتكاليف معقولة، فالمملكة من الدول التي تعاني من ندرة المياه وتلجأ إلى تحلية المياه المالحة بشكل أساسي لسد النقص في احتياجات المواطنين، حيث لا تغطي كمية مياه الآبار والأمطار احتياجات بلد واسع الأرجاء مترامي الاطراف كالمملكة، ولعل الهدف الأساس من حملات ترشيد المياه التي قامت بها وزارة البيئة والمياه والزراعة لهو حث المواطن والمقيم على عدم الإسراف في استخدام المياه بل أخذ ما يلزمه ويسد حاجته منها، كما قامت الوزارة بتوزيع أدوات الترشيد على كل منزل موضح بها طريقة استخدامها. كما قامت الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة بالتعاون مع المركز الوطني لكفاءة وترشيد المياه "مائي" بإصدار بطاقة لتوضيح معدل ترشيد استهلاك المياه لكل منتج من المنتجات التي تشملها قائمة الأدوات الصحية، كما تهدف هذه البطاقة لتوعية المستهلكين وحثهم على اقتناء المنتجات الصحية التي تحمل بطاقة ترشيد استهلاك المياه، كما تتضمّن البطاقـــة عددًا من المعايير المهمة التي تمكّن المستهلك من اختيار المنتجات الأكثر ترشيدًا وتوفيرًا في كمية استهلاك المياه. كما أطلق مركز "مائي" حملة توعوية تحت شعار "عادة تحقق استدامة" تهدف إلى التعريف بأهمية الحفاظ على المياه وتعزيز سلوكيات الاستخدام الأمثل للإسهام في استدامة الموارد المائية، كما يؤكد المركز من خلال حملته تلك على السلوكيات اليومية داخل المنزل وعلى دور المشاركة المجتمعية في تقليل الهدر المائي وترسيخ السلوك الرشيد عبر طرح العديد من الحلول التي تسهم في ترشيد استهلاك المياه، ومنها: السلوكيات المنزلية المتنوعة وأدوات الترشيد إضافة إلى بطاقة ترشيد استهلاك المياه بهدف تجنب تبعات الهدر المائي وبناء مستقبل مائي آمن، وتأتي هذه الحملة استكمالا لجهود المركز للإسهام في تحقيق الاستدامة المائية والتنمية الاقتصادية للوصول لمستهدفات رؤية المملكة 2030، وذلك من خلال تطبيق أفضل الممارسات المستدامة وفق حلول اقتصادية مثلى.
وأخيرًا، لا بِـدْعَ أن ترشيد استهلاك المياه مطلب إسلامي وواجب وطني وهدف مجتمعي حريٌّ بالاهتمام وجديرٌ بالتجاوب حيث إن ترشيد استخدام المياه وتنمية مصادرها واستدامتها لهو تأكيد للأهمية على الحفاظ على هذه الثروة الثمينة والنعمة الكبيرة والتي أوصانا ربنا تبارك وتعالى بالحفاظ عليها في هذه الآية الكريمة: "وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". كما ينبغي عدم هدر الموارد الثمينة كالمياه على ما ليس فيه جدوى أو نفع للبلاد والعباد امتثالا لقول الرب عز وجل: "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا" ‎الإسراء:،27‏.
جامعة الملك سعود




http://www.alriyadh.com/2099945]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]