((o)) النبوة وأثرها على المجتمع المكي ((o))

((o)) المرحلة المكية ((o))

يشيع في أوساط الباحثين أن التشريعات الإسلامية كانت بالمدينة المنورة إثر الهجرة النبوية إليها , وأن سمة القرآن في المرحلة الملكية التركيز على جانب العقيدة , ولكن النظرة الفاحصة تدل على أن التشريعات التي يتمكن الأفراد من تطبيقها في حقل العبادات والمعاملات دون حاجة لقيام دولة وحكومة لتنفيذها بدأ تشريعها في المرحلة المكية º ففي جانب العبادات كانت الصلاة أول الإسلام , وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وزيد يؤدونها جماعة , لكنها حددت بدقة في حادث الإسراء والمعراج من حيث أوقاتها وعدد ركعاتها وقيام الليل فرض في مكة ثم نسخ في حق المسلمين وبقي فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده . وكذلك الصدقات شرعت في مكة ولكن حُددت الأنصبة والمقادير بالمدينة .
وعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحج في المرحلة المكية , ويقف بعرفة مخالفاً لسنة قريش مما يثير الاستغراب لدى المشاهدين , وثمة تشريعات تنظم العلاقة بين جماعة المسلمين وقريش مثل الامتناع عن القتال , وعدم استخدام العنف في مواجهة المشركين وتحمل أذاهم والصبر عليهم ودعوتهم بالحسنى , وأيضاً قبول جوارهم ومساعدة بعضهم في مواقف الشدة والخطر مثل حصار الشعب , وطلب النصرة من القبائل التي كانت تقدم إلى مكة للحج . وقد أفاد المسلمون من أساليب القرآن في التنظير لجدلهم مع الآخرين . وقد اتضحت منظومة الأخلاق الإسلامية في المرحلة المكية حيث نزل القرآن بالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي كما في سورة النحل المكية 90 والأعراف 33 . وحرم القرآن بمكة وأد البنات وقتل الأولاد خوفاً من الفقر, كما حرم قتل النفس البشرية بغير الحق ( الأنعام 151) وحث على تحرير الرقيق . وورد تحريم شهادة الزور وتحريم أكل مال اليتيم وتحريم قذف المحصنات من النساء والاهتمام بصلة الأرحام في كلمة جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي , ورسخت مبادئ وقيم في المرحلة المكية كان لها أثر كبير في الجماعة المسلمة وتربيتها منها الثبات على المبدأ وعدم المساومة عليه , ومنها حب العلم والاستمرار في طلبه , وكان افتتاح التنزيل بال (اقرأ ...) إعلاماً بأهمية القراءة والكتابة حيث استمر التفاعل مع طلب القراءة وأفضى إلى قيام حضارة إسلامية سامقة , ومنها التوكل الصحيح القائم على الأخذ بالأسباب كما في خطة الهجرة النبوية بل سائر خطط المرحلة المكية . ومنها الكشف عن سنن اجتماعية وكونية , وأسرار علمية تتعلق بخلق الإنسان وتعليمه البيان - اللغة - وأخبار الماضين مما يعمق الوعي التأريخي عند الجماعة المسلمة, كما يعمق الوعي بسنن الطبيعة وخصائص المادة . وهكذا كانت التشريعات المكية شاملة لجوانب تربوية وأخلاقية واجتماعية فضلاً عن ترسيخ عقيدة التوحيد والإيمان باليوم الآخر , وكانت الجماعة المسلمة تتجاوب مع نداء الوحي وتسارع إلى التكيف وفق توجيهاته مما أكسبها صلابة التكوين وعمق الوعي وهيأها لحمل مسئولية الدولة في المرحلة المدنية .

((o))النبوة واثرها على المجتمع المكي((o))

جلالة المبدأ , تنم عن عظمة النفوس التي تتبناه , وتنهجه , وكلما كان المبدأ , راسي الأساس , بارز المعالم واضح القسمات , غدق العطاءات , تجدرت عروق بواسقه , وآتت أكلها كل حين بإذن ربها .
هكذا كانت نبوءة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , إذ لا يدري في تاريخ البشرية , نبي ترك من التأثير الباهر , والتغيير الظاهر , ما تركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , فتأثيره على النفس الإنسانية , وعلى سلوكها , وأعمالها , وتوجهاتها , واختياراتها , وتاريخها , شيء جلي لا ينكر , وحقائق لا تستر ,فقد ملأ الدنيا علماً , وحكمة , وأخلاقاً , ونظماً, وتشريعات , بهرت العالمين وشغلت الناس أجمعين , كما أنه لم تكن سيرة نبي من الأنبياء السابقين معروفة التفاصيل مترابطة الحلقات واضحة الملامح , بل لا يوثق منها إلا بما جاء في النص القرآني , والسنة النبوية الصحيحة , إلا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده الذي عرفت أدق تفاصيل حياته من بين سائر الأنبياء , من ولادته إلى وفاته .
ولا يعرف تاريخ عظيم من العظماء , بذل فيه من الجهد , والتنقيب , والتمحيص والترتيب ما بذل في سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم , فهي مرآة حقيقية صادقة لحياة طاهرة , نقية , مليئة بجلائل الأعمال التي تنم عن عظمة النفس , وقوة الإيمان بالمبدأ ومكارم الأخلاق , التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم . وقد كانت الرسالة المحمدية , عالمية بكل مقاييس العالمية , فهي وإن بدأ تطبيقها في مكة , إلا أن النصوص المكية كلها , تخاطب عامة الناس , وتشرع لجميع البشرية , وهذه العالمية في تعميمها عملياً على كافة الخلق فقد مرت من مرحلتين :
المرحلة الأولى : وهي مرحلة الإرهاصات :
المرحلة الثانية : مرحلة التطبيق العملي لهذه العالمية :
الهجرة النبوية حادثة وتاريخ ودلالة وتشريع وآثار

((o))الهجرة النبوية حدث عظيم((o))

الهجرة النبوية حدث عظيم بكل المقاييس , ومنعطف فاصل بين مرحلتين كبيرتين في تاريخ الدعوة الإسلامية : المرحلة المكية والمرحلة المدنية , أو قل : بين مرحلة الدعوة في مكة ومرحلة الدعوة في المدينة . المرحلة المكية التي كان الأساس فيها هو ترسيخ عقيدة التوحيد والمرحلة المدنية التي كانت مرحلة التشريع والأحكام , وإعلان الجهاد العسكري وانفتاح الدعوة على العالم . وقد وردت الإشارة إلى حدث الهجرة في وكتب السنة والسيرة النبوية . أما القرآن ففي مواضع منها قوله تعالى : (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ), وقوله تعالى : (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً).
وأثنى سبحانه وتعالى على صنيع الأنصار مع إخوانهم المهاجرين بقوله (والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وأما كتب السنة النبوية فقد حفلت بمرويات هذا الحدث من رواية عدة من الصحابة , وفي مقدمتها الصحيحان من رواية أبي بكر وعائشة والبراء بن عازب وسراقة بن مالك رضي الله عنهم أجمعين .
كما تحدثت كتب المغازي والسير عن هذا الحدث بتفصيل بدءا بما كتبه الرواد الأوائل في هذا الفن أمثال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وابن سعد , وانتهاء بما كتبه المعاصرون .
وبديهي أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة كانت ضرورة تفرضها الظروف التي كان يعيشها المسلمون أن إذ بمكة , وما تعرضوا له من أذى واضطهاد فضاقت عليهم مكة بما رحبت , وضيق المشركون الخناق على الدعوة وأتباعها , فكان التفكير في مكان آمن تسترجع فيه الدعوة أنفاسها وتنطلق نحو آفاق أرحب . ولقد كانت بيعتا العقبة الأولى والثانية المقدمة التي مهدت لحادث الهجرة , إذ بفضل هاتين البيعتين صار للإسلام وجود بالمدينة المنورة , وأصبح له شيعة وأنصار , وغدت المدينة مؤهلة أكثر من غيرها لاستقبال وفود المهاجرين بمكة المكرمة واحتضان الدعوة الإسلامية . وقد عانى المهاجرون الأمرين في هجرتهم إلى المدينة المنورة , وهان عليهم الأهل والأرض والمال في سبيل الله عز وجل . وكانت خطة الهجرة التي اختطها النبي صلى الله عليه وسلم من الدقة والإحكام والتكتم بحيث لم تدع فرصة للعفوية والارتجال أو تسريب المعلومات إلى العدو وبوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بدأت صفحة أخرى في سجل الدعوة الإسلامية , وكانت الأسس التي أقام عليها النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة ثلاثة : المسجد بما يمثله من أبعاد دينية وتربوية وتعليمية واجتماعية , والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بما تمثله من بعد اجتماعي , واقتصادي أيضاً والصحيفة بما تمثله من بعد سياسي . وكان إرساء الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة على هذه الأسس بأبعادها المختلفة والمتكاملة نقلة نوعية كبرى لم يشهد لها العرب مثيلاً .
إن حدث الهجرة النبوية غني بالدروس والعبر , والدلالات والأحكام ولعل من أبرز الدروس التي نستفيدها من هذا الحدث العظيم , حسن التخطيط , ومشروعية اتخاذ الأسباب, ومشروعه الحذر والكتمان لبلوغ الهدف , والحرص على استكمال الفضل والثواب وبلوغ درجة الإحسان , وأهمية المسجد والأخوة بين المسلمين في دين الإسلام . كما نستفيد من هذا الحدث البلاء الحسن الذي أبلاه الصحابة رضي الله عنه في سبيل الله عز وجل , وشدة حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم والدور الكبير الذي اضطلع به شباب الصحابة والمرأة المسلمة لنصرة الدين .
كما تضمن هذا الحدث جملة من الدلائل الشاهدة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة , كإبلاغه صلى الله عليه وسلم بخبر المؤامرة التي دبرها الكفار في دار الندوة , وما كان عليه من اليقين والثبات وهو في الغار , وقصة سراقة بن مالك , وشاة أم معبد , وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية .. وغيرها .
أيضاً تضمن هذا الحدث جملة من الأحكام الفقهية كجواز الاستعانة بالمشرك المأمون عند الضرورة , وجواز إنشاد الشعر أثناء العمل دفعاً للسآمة , وجواز نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مسجداً وجواز التعريض وجواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وجواز ارتكاب المشقة في أعمال البر . لقد كان للهجرة النبوية آثار عظيمة على مسيرة الإسلام إذ انتقل من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين في الأرض , وإقامة الدولة , وإعلان الجهاد في سبيل الله , ومكاتبة الملوك والأمراء , وتحقيق عالمية الدعوة الإسلامية . وبرزت هذه الآثار على مستويات عدة : على المستوى التشريعي حيث فرضت كثيراً من التشريعات والحدود , وعلى المستوى السياسي حيث توحد العرب لأول مرة تحت راية الإسلام, وأصبحت لهم دولة يحكمها دستور ينظم علاقات المسلمين فيما بينهم , وعلاقاتهم مع اليهود وعلى المستوى الاجتماعي حيث أدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة , ولم يعد تقسيم السكان قبلياً كما كان ( الأوس والخزرج وقبائل اليهود ) بل صار مبناه العقيدة التي ميزت المؤمنين وجعلتهم أمة واحدة من دون الناس . ولأهمية هذا الحدث العظيم اتخذه المسلمون منطلقاً للتأريخ الإسلامي في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .